والخلق مجرد الإنشاء، أما الجعل فهو خلق لأمر أراده الله تعالى في التكوين، وهو أن يكون لأمر نافع للعباد، كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَآيَتَيْنِ...).
وعلل الله كونه خلق الجبال وجعلها رواسي بقوله تعالى: (أَن تَمِيدَ بِهِمْ) والميد الاضطراب الشديد والحركة التي لَا يكون معها قرار وثبات، ويتحقق أن تكون فراشا، وأن تكون مهادا، ومستقرا، وتقدير القول كما قال البصريون: كراهة أن تميد فتضطرب، ولا يكون لها قرار تثبت النفوس فيها وتطمئن وتسكن، وقال الكوفيون: إن معنى (أَن تَمِيدَ بِهِمْ): لئلا تميد بهم، وهو تقدير لفظي اختلف فيه، ولا يغير من المعنى اختلاف الآراء، بل المعنى في التقدير أن الجبال رواسي، فلا تضطرب الأرض وتكون فراشا وقرارا ومهادا.
وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا) الضمير في " فيها " قيل يعود إلى الجبال، والمعنى جعلنا في الجبال فجاجا فيما بينها، وهي الشُّعب التي تكون بين الجبال أو في الجبال نفسها، فمع أنها راسيات تكون فيها طرق يستطيع السائر أن يسير فيها في علوها، كما ترى في جبال الأطلس في الجزائر وتونس والمغرب.
ولكنا نرى أن الضمير يعود إلى الأرض، أي جعلنا في الأرض فجاجا أي طرقا واسعة، فالفج هو الطريق الواسع، وهو في أصل وصفه للطريق بين الجبلين كأنه شق بينهما شقا، وتوسع فيه حتى صار يشمل كل طريق، جاء في المفردات: الفج شقة يكتنفها جبلان ويستعمل في الطريق الواسع، وجمعه فجاج، قال تعالى:
(مِن كل فَجٍّ عَمِيقٍ).
وقد اخترنا - كما ذكرنا - معنى الطريق لأمرين أولهما: أنه سبحانه وصف الفجاج بأنها سبل أي سبل معبدة، وثانيهما: أنه سبحانه وصفها بأن الغاية منها أن تكون طريقا للهداية والتعرف لمسالك الأرض في غير ضلال في متاهاتها، وهذا أنسب لمعنى الطريق الواسع.
قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي لتدركوا الهداية في طرائق الأرض، وألا تتيهوا في متاهاتها، وإنه بهذه الفجاج لعلكم ترجون الهداية، فهم إذا أدركوا


الصفحة التالية
Icon