الدليل من النقل القاطع، وجواب الشرط هو: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ...) وهو دليل مشتق من الماضي الواقع المستمر الدائم يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة؛ لأن الناس يخلقون كل يوم بل كل ساعة، يخلقون من نطفة، ثم علقة، ثم مضغة... إلى آخر ما ذكر سبحانه.
(خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ) كان الخلق من تراب مرتين: أولاهما في أصل الخلق والتكوين فخلق آدم أبا الخليقة من تراب، وقد ذكر سبحانه قصة ذلك الخلق وذلك التكوين، والمرة الثانية أن ذلك متجدد مستمر، فالأب والأم يأكلان مما تنبته الأرض من نبات، وثمرات مختلف ألوانها، ومن حيوان يرعى فيها، وما ينتجه طينها من نبات، فذلك من الأرض بتحويل عناصرها إلى نبات، وأشجار وتوليد الثمار من الأشجار، ثم تحول العناصر المختلفة إلى نطفة، وفي كل الأحوال يكوِّن سبحانه شيئا من شيء فهل يعجز عن تحويل الرميم إلى حي.
(ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ) وهي ماء الرجل يلتقي بخلية المرأة التي ينفثها رحمها في حال الحيض، وسمى النطفة، لأنه ينطفه أي يقطر منه وقد سماه سبحانه ماء دافقا، كما في قوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (٩)، (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ)، أي أن النطفة صارت علقة، وهي قطعة لحم طرية ثم تجمدت، وصارت مبتدأ لخلق آخر، وهو مضغة؛ ولذا قال عز من قائل: (ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ)، أي انتهت العلقة إلى مضغة، وصارت هذه ابتداء خلق آخر، (مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَة)، أي مصورة مميزة الأجزاء بالخلق والتكوين، وليست قطعة لحم فقط، بل صارت ذات شكل مميز يشير إلى أجزاء بعد كمال تكوينها، ولا تكون مخلقة قبل هذا التخليق وبيان الأعضاء، ولعل المخلقة هي التي تكون عظاما غير مكسوة بلحم أو مكسوة.
ونحسب غير المخلقة هي التي تكون مضغة لم تتكون عظامها؛ ولذا لم تذكر هنا حال كونها صارت عظاما، كما ذكر سبحانه في سورة " المؤمنون "، حيث قال