والحساب المحكَم، ولا يخرج الخطُّ من الجزْم والمسنَد المنمنم والسمون كيف كان... فكلُّ أمّةٍ تعتمدُ في استبقاءِ مآثرها، وتحصين مناقبها، على ضربٍ من الضروب، وشكل من الأشكال... وكانت العربُ في جاهليَّتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون، والكلام المقفَّى، وكان ذلك هو ديوانها، وعلى أنّ الشعرَ يُفيد فضيلةَ البيانِ، على الشاعر الراغب، والمادح، وفضيلةَ المأثُرة، على السيِّد المرغوبِ إليه، والممدوحِ به... فقال بعض من حضر: كُتُبُ الحكماءِ وَما دَوَّنت العلماءُ من صنوف البلاغات والصِّناعات، والآداب والأرفاق، من القرون السابقة والأمم الخالية، ومن له بقيَّة ومن لا بقيّة له، أبقى ذكراً وأرفعُ قدراً وأكثر ردّاً، لأنَّ الحكمةَ أنفعُ لمن ورثها، من جهة الانتفاع بها، وأحسنُ في الأحدوثة، لمن أحبَّ الذكر الجميل.. والكتبُ بذلك أولى من بُنيان الحجارة وحِيطان المدَر؛ لأنَّ من شأن الملوك أن يطمِسوا على آثار مَن قبلَهمُ، وأن يُميتوا ذكرَ أعدائهم." (١) ويقول الخفاجي: "لم يكونوا أهل تعليم ودرس، ولا أصحاب كتب وصحف، ولا يعرفون كيف التأديب والرياضة، ولا يعلمون وجه اقتباس العلم والرواية. وفي كلامهم من الحكم العجيبة، والأمثال الغريبة، والحث على محاسن الأخلاق، والأمر بجميل الأفعال، ما إذا تأملته غض عندك ما يروى عن حكماء اليونانيين." (٢) بذلك يكون إعجازهم بالنظم في مهد ما يفتخرون به ويقيسون عليه بلاغة القول ونظم الكلام، كما في إعجازهم بحفظ القرآن في صدر الرسول - ﷺ - وليس بشعر يوزن وقد "كانوا مطبوعين على الحفظ مخصوصين بذلك" (٣)، ومن هنا نعلم لماذا نزه الله رسوله - ﷺ - عن نظم الشعر بقوله ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ.. الآية ٦٩ يس﴾ فقد "كان رسول الله صلى عليه وسلم لا
(٢) سر الفصاحة للخفاجي، ص٥٤
(٣) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، ج١ص٢٩٦