فما هو موطن الفتنة؟ هو نبأ الخصم إذ تسوّروا محراب داود، وهم من الملائكة، وهذا ظاهر في قولهم (لا تخف) كما قالت الملائكة لإبراهيم (لا تخف) وفيه البيان بأن حالهم ليس من حال البشر، كما في حال المرسلين لإبراهيم عليه السلام من عدم الأكل وغرابة الهيئة، وحالهم هنا هو القدرة على الظهور من الأسوار واختراقها، وهو سبب الخوف. وتأكيداً على أنّهم من الملائكة قولهم "فاحكم بيننا بالعدل ولا تشطط"، فلا يأمر الناسُ ملِكاً سُخّرت له الجبال والطير وعُرف عنه الحكمة والبلاغة بقولهم (لا تمل أو لا تجر وتتجاوز عن الحق) (١)، فلا يقولها إلا من كان في وجوده مهابة، قال النحاس: "ولا اختلاف بين أهل التفسير أنه يراد به (أي بالخصم) ههنا ملكان" (٢)، وأقول لم يخالف إلا من أخذ الآية على ظاهرها، ولم يفهم المقصود منها، فأوكل أمر علمها إلى الله ولم يتأوّلها (٣). ومن ثم طرحوا عليه المسألة، وفيها موطن الفتنة، وهي مسألة بسيطة لو طرحت على أي عاقل لأفاد بأنها من الظلم والجور، ولَحَكم فيها بما حكم به داود وهو النبي والملك العادل الحكيم البليغ، فهذا له تسع وتسعون نعجة وهذا له نعجة واحدة، أو كان لغيره تسع وتسعون بقرة أو مثقالاً أو صاعاً من شيء، ولغيره بقرة أو مثقالاً أو صاعاً من ذات الشيء، فكيف يستقيم إجبار صاحب القليل على ترك الواحد لمن له تسع وتسعون، فالهوى فيها ظاهر ظهور الشمس وحكمه فيها هو عين الحق، ولكنه ليس الحق فيمن سأل، فالسائل ملَك من الملائكة، والخصمان من أهل السماء، وداود ملك في الأرض، وحاكم على أهل الأرض من البشر، فكيف يحكم بين من لا يعلم أحوالهم وما هي نعاجهم، ولو تشابهت الكلمات فلن تتشابه الأفهام والأحوال، فالخصم من أهل السماء والقاضي من أهل الأرض، وحكمه فيهم لا يصح ولو كان بأبسط القضايا المعروفة على الأرض، ولو حكم أهل السماء وأهل الأرض على بعض؛ لما أستخلف الله بني آدم في الأرض، فقد حكمت الملائكة وقالوا
(٢) معاني القرآن، ج٦ص٩٤
(٣) ومنهم ابن كثير رحمه الله وجعله من أهل الجنة.