الأول مالاً وفيراً ومجداً في الأسواق، وكان له أساليب في التجارة، ولم يكن لأبنائه علم بها ولا دراية، وورث أبناء الآخر ديوناً في أعناقهم وسمعة سيئة، وكانت لأبيهم أساليب في التجارة أيضاً، ولم يكن لهم من علم ولا دراية بها كما كان أبناء الأول، فمن منهما - وأعني التجار - أحق بأن يُتّبع في مسلكه؟ أيعقل أن يكون الثاني؟ فجاء ذكر الوراثة في الملك والحكمة والنبوة لسليمان من أبيه داود، وقد ورث منه الخير كله، والتقريع هنا بالسؤال لهم: أفي آبائكم من هو كداود أيها المشركون؟ أورثتم عن آبائكم مُلكاً ذاع صيته بين الأمم؟ أورثتم عنهم الحكمة حتى جاء القاصي والداني ليسألكم ويتقاضى عندكم؟ أورثتم عنهم مكارم الأخلاق وهذا حالكم؟ أورثتم عنهم الصلة بين الله والبشر كما ورث سليمان من أبيه، فكان حقاً عليه أن يتبعه؟ ولكن ما حالهم بخاف عليهم، وما حال آبائهم بخاف عليهم أيضاً، فلم يكن بينهم من نبي كما يعلمون، فالوراثة في المسلك والدين تكون للأخيار ومن في آثارهم دعوة لسيادة الأمم بالحق والفوز بما عند الله، وهي إشارة أيضاً على أن الوراثة في الملك والنبوة لا تكون إلا لمن شاء الله أن تكون فيه، وقد شاء الله أن يكون الحكم في يد رسوله - ﷺ - فتنبهوا يا جاهلين فإن الله متمم ما أراد لا محالة ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾.
الحجة الخامسة: وهي حجة السحر والكهانة، فبعد الإشارة على وجه منها في قصة داود، وهو قول الملكين (لا تخف)، وفيه الإشارة على أنّهم لو كانوا شياطين لما أمروا بالمعروف بتهدئة فزعه، ولو كانوا شياطين لاستغلوا فزع داود لأخذ ما يريدون، فالشياطين تتبع الزلات وما يوجبها، والخوف من أكثر ما يوجب الزلات، والله لا يؤاخذ عبداً قال كلاماً وهو خائف، ولو كان الرسول - ﷺ - ساحراً ويتبع الشياطين لفعل ما تفعل الشياطين وسلك مسلكها من غير نظر للغاية في دعوته، وقد رد الله عليهم الحجة بذكر قصة سليمان عليه السلام، وذكر ما وهبه له من ملك لا ينبغي لأحد من بعده، وأنه سخر له الريح تجري بأمره، وسخر الشياطين تعمل


الصفحة التالية
Icon