بلحم من لحم هذه، فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر. وقال الكلبي: كان رجل يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثة، ثم يرفع جانب خبائه فتمر به النعم فيقول: ما رعى اليوم إبل ولا غنم أحسن من هذه، فما تذهب إلا قريباً حتى يسقط منها طائفة وعدة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله - ﷺ - بالعين ويفعل به مثل ذلك، فعصم الله تعالى نبيه وأنزل هذه الآية." (١) أقول: إن قول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الأولى، لم يأت لبيان سبب تنزيل هذه الآية، بل جاء كأنها تقول (لذلك قال الله وإنك لعلى خلق عظيم) وهو ما بيّنته روايات الحديث الصحيحة "عن سعد بن هشام قال: أتيت عائشة فقلت: يا أمّ المؤمنين أخبريني بخلق رسول الله - ﷺ -، قالت: كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن: ﴿وإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ " (٢)، وهو حديث عظيم له دلالات عظيمة، وليس فيه ذكر سبب التنزيل على اليقين، وقد ذكره العلماء في أوصاف الرسول - ﷺ - خير البشر وخير الأنبياء والرسل؛ لنعلم ما كان عليه نبينا وأنه أحسن الناس خُلقاً، (٣) وأما الثانية فلم تكن سبباً في التنزيل، فقد جاءت لتفسير كلمة "ليزلقونك"، وقد تكلم فيها علماء التفسير بما لا مجال لذكره هنا، ومعناها اللغوي أفاد بما أفادته الرواية، وبيان سبب ذكر هذه الكلمة في هذا السياق لا يعمم على الآية، وقد جاء بعدها (ويقولون إنه لمجنون) وهو السبب الرئيسي، مع العلم أن هذه الرواية أفادت بالكثير من العلم، بأن العين حق، وأن الحذر منها واجب، وأن المشركين لم يتركوا طريقاً لمنع الرسول - ﷺ - من إتمام رسالته إلا وسلكوه، وغير هذا من الفوائد العظيمة، ولكنها لا تكون سببا لفهم هذه الآية، وأنها نزلت لتعصم الرسول - ﷺ - وهو - المعصوم أصلاً-، فسياق الآية والسورة لا يشير إليه على أي حال من الأحوال، وجل ما يستفاد منها في فهم التفسير أنها نزلت لوصف حالهم من شدة حقدهم عليه - ﷺ -. وغير هذه الآيات والسور كثير، والأدلة على أن الكتب التي عنيت بأسباب التنزيل احتوت علماً شريفاً بمضمونها، ولكن أسلوب السرد فيها كان محدثاً، والواجب رده لقول الرسول - ﷺ - (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (٤)، فلا نقول سبب تنزيل هذه الآية أو السورة كذا بالرجوع لهذه الكتب وكأنها معجم ما استعجم من واقع نزول القرآن، بل نأخذ ما جاء في تأويل الآيات والسور مما ورد في كتاب الله وسنة نبيه - ﷺ - وكلام الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم وما جاء في كلام العرب، مراعين لواقع المخاطبين من خلال ما ذكر فيها جميعاً لفهم واقع التنزيل وحال المتلقين، وهذا هو الحق في التأويل. وإن كان الإمام أحمد قد قال: "ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي والملاحم والتفسير" فنحن نقول: إن كتب أسباب التنزيل ما زالت من غير أصول، يسّر الله لها من يعطيها حقها.
والأعجب من حصر الأفهام بأسباب ضعيفة السند والمتن ما تجده في قول أحدهم إن قوله تعالى من ﴿اصبر على مَا يَقُولُونَ﴾ - إلى قوله - ﴿وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾ منسوخ بالأمر بالقتال، (٥) ونسي
(٢) رواه الإمام أحمد (١٦٣/ ٦) والبخاري في خلق أفعال العباد (ص٨٧): قالت (كان خلقه القرآن) وعبد الرزاق في التفسير (٣٣٠/ ٣)، ورواه مسلم من حديث مطول لابن عباس (٥١٢/ ١) كما في رواية عند الإمام أحمد (٥٣/ ٦) وأبي داود (٤٢٦/ ١) والنسائي (١٩٩/ ٣) وابن خزيمة (١٧١/ ٢) وابن حبان (٢٩٢/ ٦) وعبد الرزاق (٣٩/ ٣) والدارمي (٤١٠/ ١) وابن راهويه (٧١٣/ ٣) وأبي عوانة (٥٥/ ٢) ومحمد بن نصر المروزي في مختصر قيام الليل (ص١٢٣). ورواه الطحاوي في مشكل الآثار (٢٦٥/ ١١) والقاسم بن سلام في فضائل القرآن (ص١١١): قالت: «قال الله جلّ ثناؤه: وإنك لعلى خلق عظيم، كان خلقه القرآن» ورواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (٥٤١/ ٢) (ولم يتنبه للحديث في مسلم كون المتن قطعة من الحديث المطول لابن عباس) والبيهقي في الشعب (٢٢/ ٣) ورواه ابن جرير (٥٢٩/ ٢٣) وأبو يعلى الموصلي (٢٧٥/ ٨) والبرجلاني في الكرم والجود (ص٣٦) والآجري في الشريعة (١٥١٥/ ٣) وكلهم من غير قولها " لذلك أنزل الله".
(٣) كما جاء ذكر الحديث في كتاب أخلاق النبي - ﷺ - لأبي الشيخ الأصبهاني.
(٤) رواه الإمام أحمد (٢٧٠/ ٦) والبخاري (١٨٤/ ٣) ومسلم (١٣٤٣/ ٣) وأبو داود (٦١٠/ ٢) وابن ماجه (١٠/ ١) وابن حبان (٢٠٧/ ١) وغيرهم.
(٥) الهداية إلى بلوغ النهاية (٦٢١٢/ ١٠) ولم يكتف بهذا بل فسر الآية على ذات القصة من الإسرائيليات.