بالسخاء والله؛ وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال: أقسمت بص والقرآن ذي الذكر إنه لمعجز ثم قال: بل الذين كفروا في عزة واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق وشقاق لله ورسوله، وإذا جعلتها مقسماً بها وعطفت عليها ﴿والقرءان ذِى الذكر﴾ جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كله، وأن تريد السورة بعينها. ومعناه: أقسم بالسورة الشريفة والقرآن ذي الذكر، كما تقول: مررت بالرجل الكريم وبالنسمة المباركة، ولا تريد بالنسمة غير الرجل." (١) وقد قُرِأ حرف الصاد وغيره من الفواتح على عدة وجوه أشهرها بالسكون عليه وهي قراءة الجمهور، وقرأها البعض بالفتح وبالكسر، (٢) ولو قال البعض بأن التحريك كان لالتقاء الساكنين فهذا لا يمنع أنها جامعة لوجوه الإعراب وتزيد عليها بألّا محل لها من الإعراب على أحد الوجوه. (٣)
تأمّل بالله ما قالوا وما جمعوا في حرف واحد! والله وكأنهم يحاولون فك سلسلة من حديد بأسنانهم، كل هذه الوجوه وكل هذا التأويل ولم يصلوا إلا لنتيجة واحدة، وهي أن هذا الحرف نزل موضع الكلمة من الكلام، وهي تفهم بحسب سياق النظم، ولم يتفقوا عليه لسبب عظيم، وهو أن اشتراط القصد وإفادة ما يُجهل من اللفظ هو أصل فهم الكلام، لا اتحاد الناطق وأشكال تصوير خلافه (٤)، والكلام هنا إلهي، ولو تشابه النطق وتصوَّر المستمع معنى من المعاني، فهذا لا يلزم الكلام ولا يخصصه بما فهمه من معاني، فالجهل لا يُخَصِّص العلم ولا يَشترط عليه، وسياق النظم هنا إلهي لا بشري، ولا يعرف سر نظمه ومبلغ قصده إلا هو جلّ في علاه، وهذا وجه صحيح من الأقوال المشهورة في تأويل الحروف، وهو قولهم إن لكل كتاب سر وسر القرآن هذه الحروف، (٥) ونحن نعلم بأنّ هذا السر كائن في نظم القرآن كله ومنه ذكر الحروف في سياق نظمه، وليس السر فيها مفصولة، فهي حروف من حروف المعجم، يكون لها معانى ظاهرة في أصل الكلام والكتابة، وقد جاءت هنا من ذات النظم في القرآن مغايرة لما هو معروف في الكتب، ولو كانت بنظمها مما يعرف الناس لما تحيّر الناس فيها. والدلالة على أن فيها سراً من أسرار النظم أنها تستوقف القارئ، ولا يفهم معناها، رغم علمه بماهيتها على أصلها وكيفية قراءتها، ويظن من أطلق العنان فيها أنها بحد ذاتها سر من الأسرار في معانيها وليست كذلك. وهذا أيضاً من الأقوال المشهورة في تفسير القرآن أي أنها تنبيه للقارئ، وهي كذلك، ولكنها ليست الغاية في تأويلها، فالتنبيه صفة لها لما فيها من مخالفة لمنهج النظم البشري القاصر عن فهم الرموز من غير قاعدة ومن غير علم مسبق بها، وقد وهم بعض المفسرين اللغويين بقولهم إن هذه الحروف لها معاني مفصلة بناءً على قول الشاعر "قُلت لَها قفي لَنَا قالَتْ قاف" (٦)، وهذا من الأقوال المشهورة، ولكنه شاذ ومردود لما فيه من قياسِ رمز له

(١) الزمخشري (٧٠/ ٤) تفسير سورة ص
(٢) قال ابن جرير (١٣٨/ ٢١) تفسير سورة ص: "واختلفت القرّاء في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا عبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن عمر، بسكون الدال، فأما عبد الله بن أبي إسحاق فإنه كان يكسرها لاجتماع الساكنين، ويجعل ذلك بمنزلة الأداة، كقول العرب: تركته حاثِ باثِ، وخازِ بازِ يخفضان من أجل أن الذي يلي آخر الحروف ألف فيخفضون مع الألف، وينصبون مع غيرها، فيقولون حيث بيث، ولأجعلنك في حيص بيص: إذا ضيق عليه. وأما عيسى بن عمر فكان يوفق بين جميع ما كان قبل آخر الحروف منه ألف، وما كان قبل آخره ياء أو واو فيفتح جميع ذلك وينصبه، فيقول: ص وق ون ويس، فيجعل ذلك مثل الأداة كقولهم: ليتَ، وأينَ وما أشبه ذلك."
(٣) قال الزمخشري (٣١/ ١) تفسير سورة البقرة: "فإن قلت: ما محلها؟ قلت: يحتمل الأوجه الثلاثة، أما الرفع: فعلى الابتداء، وأما النصب والجرّ، فلما مرّ من صحة القسم بها وكونها بمنزلة: الله والله على اللغتين. ومن لم يجعلها أسماء للسور، لم يتصوّر أن يكون لها محل في مذهبه، كما لا محل للجمل المبتدأ وللمفردات المعدّدة."
(٤) قال السيوطي في تعريف الكلام: "والكلام قول مفيد وهو ما يحسن سكوت المتكلم عليه وقيل السامع وقيل هما والأصح اشتراط القصد وإفادة ما يجهل لا اتحاد الناطق وأشكال تصوير خلافه". همع الهوامع ج١ ص٤٢
(٥) ذكره القرطبي (١٥٤/ ١) تفسير سورة البقرة، عن أبي بكر وعلي وقد بينت سابقاً بطلان هذا النسب، وذكره من أقوال عامر الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين فهو قول موقوف على هؤلاء العلماء إن صح عنهم.
(٦) اللسان - مادة وقف


الصفحة التالية
Icon