قد أوتي الحكمة والعلم، فإما أن يعطيهم مالاً عظيماً يستغنون به عن الناس، أو أن يؤيدهم بكلمته وسلطته النافذة على أرجاء مملكته، أو أن يعلّمهم من الحكمة ومن أسباب الحياة ما يضمن لهم حياة شريفة كما عاشها هو، وكذلك الأب أيّاً كان، لا سبيل لضمان مستقبل أولاده إلا بواحدة من هذه الخيارات الثلاثة، وهي الأصل لصفات الكمال عند شيخ الإسلام ابن تيمية إذ قال: "صفات الكمال ترجع إلى ثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى" (١)، ولكن الأب أو الملك لو أعطى المال والكنز أو أيّد أولاده بسلطانه وأبقاهم تحت يده لأهلكهم، لأن السلطة لا تدوم، والمال إن لم يجد عقلاً كيّساً ضاع، أما العلم فهو الحامي والضامن الوحيد، وكذلك الأمر في هذه الآية، فلو أراد العرب أن يعلوا شأنهم بتأييد من الله وسلطانه بإرسال مَلَك مع الرسول - ﷺ -، وهو التأييد بالسلطان الظاهر للعيان، لكان فيه العزّة لأجل، فبموت الرسول - ﷺ - سيُرفع الملَك ويبقى الأتباع بلا سند، ولو أنزل معه كنز ولو كان جبلاً من ذهب، لفني عن بكرة أبيه، إما لجهلهم وإما لطمع الأمم فيهم، ولذلك نجد في سورة ص رداً على قولهم ﴿أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ التقريع بقوله تعالى بعدها ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (١٠)﴾ فليس لكم لا هذا ولا ذاك. وبعد هذا البيان فلا يبقى إلا مضمون الرسالة ومفهوم الإنذار، وما يقتضيه من دعوة لتعلم القراءة والكتابة لهذا الكتاب العظيم كما أُنزل باللسان العربي والحروف العربية، من غير تبديل وتغيير للـ (البعض*) منه حتى ولو كان حرفاً واحداً، وهو ما جاء في الشق الثاني من الآية وهو المزيل للضيق ﴿إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ أي لا يضيقنّ صدرك بما تتوقع من ردودهم، فهذه أبلغ الردود بينتها لك، وبديلها

(١) مجموع الفتاوى ج١١ ص٣١٢


الصفحة التالية
Icon