لمن كتبه: اكتبوه بالحروف العربية ولا تكتبوه بسواها، ولا تترجموه للغات الأقوام من حولكم - مع أمره لهم بنشره للناس كافة - بل انقلوا معانيه، وبلغوه للناس باللفظ مع ما يوافقه من الكتابة، وعاهدوني على حفظ رسمه ونسخه وتوزيعه؟
ألم يكن ليفعل هذا لو كان كاذِباً أو ساحراً أو مجنوناً كما ادعى المشركون؟ (١) من هنا نعلم بأن هذه الحروف جاءت لتبين بأن الرسول - ﷺ - ليس صاحب الكتاب، وأنه أمّي لا يكتب، وهذه إحدى أدق الحجج على صدق الرسول - ﷺ -، ولم ينتبه إليها الكثير من الناس، وتتمثل في موت الرسول - ﷺ - والقرآن لم يجمع في كتاب واحد بإشرافه، بل جمع في صدور أصحابه وما كتبوه، ولو كان مُدعياً لأمر بكتابته جملة واحدة في كتاب واحد في حياته، ليتأكد من كماله وحفظه، وإن قال قائل لم يأمر - ﷺ - بجمع القرآن وتأليفه لأنه لم يكن يعلم متى سينقطع الوحي بموته، ورسول الله - ﷺ - لا يعلم الغيب، قلت: هل يكون عمر بن الخطاب وابن عباس أوعى من خير البشر وحامل الرسالة ومن أوتي القرآن ومثله معه؟ حاشاه، فقد تأوّل ابن عباس في حضرة عمر سورة النصر بأجل الرسول - ﷺ -، وقال بأن رب العالمين نعى إليه نفسه - ﷺ -، أولم يعلم ذلك المتلقي وعلمه ابن عباس وعمر؟ ولو كان هذا هو السبب لكان أشرف على جمعه، ووضع له نظاماً يضمن به الترتيب، ولكنه موقن بأن الله تعهد بحفظ القرآن في صدره أولاً، وتعهد بحفظه في الصدور والسطور إلى أبد الآبدين، وبعد هذا التدبر والتأمل "فلن يأتي لك من ذلك إلا معنى

(١) ولا ننسى بأنه لم يُرد مصلحة دنيوية كما هو الحال عند البشر، بجمع المال أو الوصول الى السلطة وامتلاك الخدم والحشم والتمتع بملذات الحياة ولو بعد حين، وقد عرضوا عليه هذا كله كما قالوا له (إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا) من حديث في فقه السيرة لمحمد الغزالي، تحقيق الألباني وقال (حديث حسن) ص١٠٦، ولم يكتف - ﷺ - برد هذه الأشياء بل أكد انتفاء المصلحة الدنيوية المادية بقوله "الأنبياء لا يورثون"، فلا وريث له مما ملك من متاع الدنيا، وليس لأهله ونسبه من بعده أيضاً - ﷺ - فقطع بذلك كل السبل لاحتمال الغاية المادية.


الصفحة التالية
Icon