الثاني: هو ذات السبب الذي نص على الأخذ بما ورد في القرآن أولاً والسنة ثانياً، وهو ذات السبب الذي ردّ فيه علماء الحديث متن الحديث وإن صح سنده لأسباب منها: إن خالف صريح ما دل عليه القرآن.
الثالث: إن تعذر فهم الكلام بشكل عام إلا ببيان السبب فسيكون السبب قرينة للكلام، وليس من الحكمة تركه إلا ببيانه ولو ضمنيّاً، لكونه نقص في دلالات الكلام، وحاشا لله أن يكون كلامه فيه نقص، فلو امتنعت معرفة التفسير للسور أو الآيات إلا بذكر السبب، فسيكون مذكوراً في سياق النظم لا محالة. وعليه "إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أُجْمِلَ في مكان فإنه قد فُسِّرَ في موضع آخر، وما اخْتُصِر من مكان فقد بُسِطَ في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: كل ما حكم به رسول الله - ﷺ - فهو مما فهمه من القرآن، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء: ١٠٥]، وقال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٤٤]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: ٦٤]، ولهذا قال رسول الله - ﷺ -: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، يعني السنة" (١)
الرابع: إنّ أسباب التنزيل اسم لعلم من علوم التفسير، وجاء اسمه اختصاراً لبيان واقع الحال عند التنزيل بآثار الصحابة، ولا يجب تأكيد السبب في نزول القرآن إن كان أثراً - ولو صح سنده - باعتباره سبباً لكلام الله، ونستقي بذلك منه الحكمة المطلقة لكلام الله، بل يجب النظر إليه على حقيقته كبيان لواقع الحال، كما اعتبرها أهل الحديث شهادة من الصحابي وليس نقلاً للكلام، وذلك لفهم القرآن كما فهمه الصحابة في واقعهم، ولدرء صرف الانتباه عن السبب الحقيقي المذكور في القرآن ولو كان ضمنياً. وهذا ما كان عليه الصحابة أنفسهم "فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمة أو نظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن." (٢)
الخامس: إنّ أسباب النزول تابعة لتنزيل القرآن، وهو كما قال أهل العلم "على قسمين: قسم نزل ابتداءً، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال." (٣) ومعلوم أن معرفة الواقعة والسؤال هو ما اصطلح عليه بأسباب التنزيل، وهو كما "قال ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن. وقال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب." (٤) وفيه فوائد جمة ذكر منها السيوطي: "معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم. وإن اللفظ قد يكون عاماً ويقوم الدليل على تخصيصه، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ماعدا صورته، فإن دخول صورة السبب قطعي وإخراجها بالاجتهاد ممنوع وجاء الإجماع على هذه الفائدة، والوقوف على المعنى وإزالة الإشكال" (٥). وهذا مما لا ينكره أحد، بل هو مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة وعلماء الأصول، ولكن ما ننكره هو

(١) ابن تيمية - مقدمة في أصول التفسير ص٣٩، والحديث رواه الإمام أحمد (١٣٠/ ٤) وأبو داود (٦١٠/ ٢)، وصححه الألباني في المشكاة (رقم١٦٣).
(٢) ابن تيمية - مقدمة في أصول التفسير ص٤٥
(٣) الإتقان في علوم القرآن ج١ ص٨٧ - القول في أسباب التنزيل، والقول للجعبري، وهو صاحب مختصر أسباب النزول للواحدي.
(٤) الإتقان في علوم القرآن، ج١ ص٨٨
(٥) الإتقان في علوم القرآن، ج١ ص٨٧


الصفحة التالية
Icon