دين الله باللسان والقلم، بل وكان من أبواب الدفع عن دين الله أمام الفلاسفة والمنطقيين الكفرة وكان فيه خير عظيم، فقد تميّز الحق عن الباطل بما لا يخفى على المسلم ولا يخفى على من كان قلبه طاهراً بالإيمان، فكان القول هنا أما أنتم يا مؤمنون فلكم في هذا الخير، وأما العصبة الكاذبة ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ﴾ كلٌّ حسب نيته، ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ فالمبتدع لهذا القول ومن تولى إظهار معظم الكذب بابتداع القول فيه له عذاب عظيم عند الله، إذ لولا البدعة في القول لما حصل منه شيء. ورحم الله القاضي أبو بكر الباقلاني لسان الأمة وسيف السنة المتكلم على لسان أهل الحديث، فقد أوّل الآية بعمله لا بقوله، فقد تعلّم علم الكلام وبرع فيه ليذبّ عن كتاب الله وسنة نبيه بأحسن الأقوال فكان خيراً للأمة، فأقام الحجج على المبتدعة والفلاسفة وعلماء الكلام من المسلمين، وحاجَّ أئمة الكفر في زمانه من زنادقة وملوك، وقد ظن الكثير أن علم الكلام شر محض وليس فيه خير، وعندما سأله ملك الروم عن قصة عائشة وما قيل فيها، قاسها بغيرها من النساء الآتي طهرهن الله فقال (١): (هما اثنتان في التاريخ قيل فيهما ما قيل، زوج نبينا ومريم ابنة عمران فأما زوج نبينا فلم تلد، وأما مريم فجاءت بولد تحمله على كتفها وكل قد برأها الله مما رُمِيَت بِهِ فانقطع كلام الملك ولم يعرف ما يقول). ومن رمى عائشة من الذين يدّعون الإسلام ولم يأخذوا بأيّ من أحاديث البراءة، كان القرآن حجة عليهم وحده، بقوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤)﴾ في أول السورة ونحن نقول هاتوا بشاهد واحد على رميكم أعز وأشرف المحصنات يا فاسقين.
المسبب الثالث: ما جاء في الإسرائيليات من خفايا وما أورثته من تحريف لمعاني القرآن
قال الرسول - ﷺ -: "بلّغُوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَجَ، ومن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأْ مقعده من النار" (٢)، وقال - ﷺ -: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" (٣)، وقد تكلم العلماء في هذا الباب وقالوا فيه الكثير، ومنهم من أفرد الكلام عنه بكتاب مفرد، وذكر فيه آثار الإسرائيليات في كتب التفسير مما يغني عن التفصيل فيه، ولكنني أقصد قسماً مما فصّله العلماء فيها وظنّوا فيه الخير، ويظهره ما نقل ابن كثير بياناً للحديث الأول: "هذه الأحاديث الإسرائيلية تُذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد. فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: ما علمنا صحتَه مما بأيدينا مما نشهدُ له بالصدق، فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبَه بما عندنا مما يخالفه. والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمِنُ به ولا نكذّبه، وتجوزُ حكايتُه لما تقدّم." (٤) وهذا تفصيل نظريّ، وإن كان فيه حق، ولا أقصد الطعن فيه وإنما أقصد الإشارة إلى تطبيقه في كتب المفسرين، وخاصة ما كان من القسم الأخير، وهو ما رواه المفسرون واعتمدوا عليه وقال فيه ابن كثير: "وغالبُ ذلك مما لا فائدة فيه تعودُ إلى أمرٍ
(٢) رواه الإمام أحمد (١٥٩/ ٢) والبخاري (١٧٠/ ٤) وعبد الرزاق (٣١٢/ ١٠) والترمذي (٤٠/ ٥) والدارمي (١٤٥/ ١) والبيهقي في معرفة السنن (١٣٨/ ١) وابن حبان (١٤٩/ ١٤) والطبراني في الصغير (٢٨١/ ١) والطحاوي في مشكل الآثار (١٢٥/ ١) وغيرهم.
(٣) رواه البخاري (١٨١/ ٣) والنسائي في الكبرى (٤٢٦/ ٦) وابن جرير (٤٩/ ٢٠) وابن ابي حاتم (٣٠٧٠/ ٩) والبيهقي في شعب الإيمان (١٧٤/ ٧) والبزار (٢١٠/ ١٥) وغيرهم.
(٤) مقدمة تفسير القرآن (٩/ ١) والكلام لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية - انظر مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية ص ٤٢