وبين التأويل في هذه الأقوال، وإيجاد تأويل لها وليس ما حملته من تأويل، فنقول: إن أغلب الروايات عنهم تقول إنها كقولك يا رجل، وزادوا بأنها بالنبطية أو بالسريانية أو بالحبشية في (طه)، ويا إنسان في (يس)، ولو حملناها على المعنى فلن يستقيم التأويل لأربعة أسباب، الأول: أنها لا تعني يا رجل لا بالسريانية ولا بالحبشية ولا بغيرها من اللغات، فرجل بالسريانية مثلا (جبرا)، وكذلك بالحبشية لا تعني يا رجل، ولا بالنبطية كما سيأتي، والثاني: أنها لو كانت اسماً أو نداءً لما سكت عليهما - أي يس وطه - وهو جائز عند الجمهور، ومعلوم أن النداء لا يوقف فيه على المنادى أما القسم فيوقف عليه، والثالث: ما قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن (١) أنّه لا ينبغي أن يكون اسماً؛ لأنه ساكن ولو كان اسما لدخله إعراب، والسكون قراءة الجمهور أيضاً، بل هو المحفوظ في المصاحف اليوم، أما الرابع: فإن علماء العربية قالوا بأن من قرأ طه بالكسر كما عند الكوفيين، ألزمه بأن يفسرها كحروف، أما من قرأ بالفتح فجاز له أن يقول هي بمعنى يا رجل، وهؤلاء التابعين من سكان الكوفة والبصرة! وقراءة البصريين والكوفيين بالكسر لا بالفتح، فإن قلنا بأنهم قصدوا تفسير الحروف رميناهم بالكذب، لأنها لا تعني يا رجل بأي من هذه اللغات، ولأنهم خالفوا أنفسهم فيما ثبت عنهم، فمرة قالوا هي بلغة كذا ومرة بأخرى وهم أئمة ومنارات للعلم، وهم ثقات عند أئمة الحديث، فيبقى أنهم قصدوا أمراً من اثنين لا ثالث لهما:
الأول: إنهم قصدوا بقولهم بيان القراءة في طه ويس، كأنك تقول طا ها يا رجل، لبيان حذف الهمزة، أو يا سين من يا إنسان، وليس من هاء يا رجل بالكسر أو يائس بثبوت الهمزة على الصحيح من هاؤم يا رجال وهاؤنّ يا نساء وهاءِ يا رجل وهاءِ يا امرأة بهمزة مكسورة، وهي قراءة الجمهور بفتح الطاء والهاء، وهذا بعيد لأنهم من أهل العراق، ومن سكان الكوفة والبصرة، وقراءة البصريين والكوفيين بالكسر لا بالفتح على المشهور بينهم، والفتح فيهما (أي طه ويس) قراءة نافع إمام القرّاء المدني برواية قالون قارئ المدينة، وقراءة القاضي ابن كثير المكي وعنه البزي إمام الحرم المكي وقنبل المكي، وقراءة الإمام القاضي عبد الله بن عامر الشامي وعنه الإمام المحدث هشام بن عمار الدمشقي وإمام جامع دمشق ابن ذكوان الدمشقي، وهي إحدى قراءتي عاصم ابن أبي النجود الكوفي من رواية حفص نزيل مكة عنه، أما قراءة ورش القيرواني مقرئ الديار المصرية ونزيل المدينة عن نافع فكانت بفتح الأولى وكسر الثانية وهي بموافقة نافع لا قراءته.
الثاني: إنهم قصدوا بيان القراءة بلهجة النبط، والنبط هم كما قال ابن حجر: " أهل الفلاحة من الأعاجم؛ وكانت أماكنهم بسواد العراق والبطائح، وأكثر ما يطلق على أهل الفلاحة، ولهم فيها معارف اختصوا بها، وقد جمع أحمد بن وحشية في "كتاب الفلاحة" من ذلك أشياء عجيبة" (٢)، وابن وحشية "كلدانيّ الأصل، نبطيّ. من أهل قسين (كورة من نواحي الكوفة) " (٣)، وهو منهم وقام بنقل علومهم من الكلدانية للعربية، وهم غير العرب الأنباط سكان البتراء وأصحاب الحروف النبطية، ولغة السريان والكلدان تجمعها صفة "اللهجات الآرامية"، وتجمّعاتهم كانت في العراق وبلاد الشام، فالكلدانية لهجة محكية في نينوى والموصول وبغداد والبصرة في العراق، والسريانية محكية في بعض أجزاء العراق، وفي بعض المدن في بلاد الشام، وإذا نظرنا لهؤلاء الأئمة وجدناهم إما من سكان العراق، وإما من أهلها، فالضحاك كان

(١) مجاز القرآن، ج٢ ص١٥
(٢) فتح الباري، ج٨ ص٦٣١ (تفسير سورة الرحمن)
(٣) الأعلام للزركلي (١٧٠/ ١) ترجمة ابن وحشية


الصفحة التالية
Icon