المباشر، لأن الانفصال يفقد السياق عنصر المعرفة ويذهب به إلى الإبهام التام، وهو ما لا سبيل لمعرفته إلا بكونك القائل، وهذا نقيض الرمزية أصلاً، إذ هي في الأساس قامت على الإيحاء بما لا تستطيع المعاني المباشرة ولا التراكيب التقليدية أن توصله من المخاطب إلى القارئ والسامع، ولو لم تكن هناك علاقة بين المعنى والدلالة لجاز لنا استعمال الكلمات اليونانية في نص نخاطب به العرب، ولو جاز لنا ذلك وقال البعض بجوازه لقلنا هو رأيكم ولكن لا حجة لكم على المخاطبين إن لم يفهموا، بل أنتم ملومون، لأنكم قصدتم الإعجام والتعمية والإبهام، فرموزكم تستعمل في الفنون، ونقرها نحن في الأحلام لا في البيان والأحكام وما تقتضيه من إيضاح وإفصاح وإفهام، ولو كان جبران خليل جبران أو بودلير (الشاعر الفرنسي رائد الرمزية في العصر الحديث) نذير قوم لما قالا بيتاً فيه الربيع والحزن، وقصدا بهما النصر والهزيمة، ليس لاستحالته رمزياً ولكن لأن الكلمات تحكمها المقاصد الفعلية من الكلام، ويُظهر صدق غايتها وسوية قائلها السياق، والسوي ينأى بنفسه عن السفاهة والكذب الظاهر. ولهذا السبب أنكر كثير من العلماء القول بالرمزية في القرآن، لأنها تعبّر عن مذهب فكري ومدرسة أدبية لا حدود لها، بل هي تمتاز باللّا محدودية في طرح الأفكار والحواس بعبارات غامضة، ولولا الغموض فيها لما كانت رمزية، والحق والصواب أن الرمزية على إطلاقها ليست في القرآن، فإن كان لها ضوابط وقصدنا بها الكناية أو التعريض بالإشارة فهي من ميّزات الوحي الإلهي، ولولا هذه الحقيقة لما أمرنا رب العزة بالتأمل والتدبر في آياته، ومن قال بأن القرآن ليس فيه رمزية بهذا المعنى فقد جهل، والعبرة بالمسميات والمصطلحات، وهي ترتبط كما يقول مؤلف كتاب "دليل الناقد الأدبي" بتفسير وتقويم المصطلح قبل إطلاقه، أو "وضع المصطلح في سياقه الثقافي والتاريخي؛ أي تأطيره ضمن حدوده الدلاليّة التي نشأ فيها لكي تتمّ الإفادة منه بوعي بما نشأ للدلالة عليه. وهذا الجانب مغفل، أو شبه مغفل، في الكتب المشابهة سواء العربيّة أو الغربيّة، العربيّة لأنّ أكثر الباحثين العرب يرى أنّ قصارى ما يمكن للباحث العربي أن يفعله هو أن ينقل ويجيد النقل. فتقويم الأعمال التي تترجم أو تعيد تقديم المفاهيم والنظريّات والعلوم المختلفة يقاس عادة بمعيار الدقّة ومدى الانضباط وليس الاستقلال الحضاري أو الثقافي الذي يعرِّف ويقوِّم في الوقت نفسه." (١) فالرمزية بمعنى الكناية والتعريض ركن أساسي في فقه الأصول وسعته، ومن شذ في إطلاقها - أي الكناية والتعريض - ظهرت عنده الشبهة الفقهية، وهي الشبهة الثانية، فقد كانت بسبب الأولى وظهرت قبل ظهورها الفعلي، وهي قولهم بجواز استعمال اللفظ المشترك بجميع معانيه، من غير التفصيل بين المعاني الحقيقية والمجازية، وذهبوا للعمل بها جميعا كمعاني حقيقية، وقد استدل بعض الأصوليين على استعمال اللفظ المشترك بجميع معانيه بآيات منها قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: ٥٦] فقالوا إن الصلاة من الله ثناء ورحمة، ومن الملائكة استغفار، وهذا قول هالك، فالصلاة ثناء على الأصل كما في معناها اللغوي كتفسير، وليس فيها تأويل يصح ولا تفصيل موزون من غير دليل، فنقل الظاهر بحاجة إلى قرينة أو دليل، وهو معدوم، إلّا إن كان الدليل هو محض الرأي أو سعة الخيال كما هو الحال في الرمزية الشعرية، وهذا كله من عدم التفريق بين التفسير والتأويل. (٢) "ولهذا قيل: الإشارة من العبارة بمنزلة الكناية والتعريض من التصريح أو بمنزلة المشكل من الواضح، فمنه ما يكون موجباً للعلم قطعاً بمنزلة الثابت بالعبارة، ومنه ما لا يكون موجباً للعلم وذلك عند اشتراك معنى الحقيقة والمجاز في الاحتمال مرادا بالكلام. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا... الآية ١٥ الأحقاف﴾

(١) سعد البازعي - ورقة بعنوان الترجمة والتحيّز في "دليل الناقد الأدبي"، وهو كتاب ألفه مع ميجان الرويلي، وذيلا عنوان الكتاب بأنه "إضاءة لأكثر من سبعين تيارا ومصطلحا نقديا معاصرا".
(٢) ومن الذين لا يفرقون بينهما ابن جرير الطبري في تفسيره، فكان يرى بأن التفسير والمعنى والتأويل واحد، فتنبه.


الصفحة التالية
Icon