عرفنا أنه يجيد القراءة والكتابة." (١) ولأنها من المحكم سيكون بيان المقاصد فيها محكوماً بأصول التفسير وعلوم القرآن وأصول علم الحديث، وهذا ما تتبعناه سابقا لبيان الحق في معناها وتفصيل الأقوال في تأويلها بحسب الآراء، ويبقى أن نعتبر المقاصد فيها وكأنها بيان للأحكام الواردة في ظاهر النص، دون قياس أو محض رأي، لأن القياس مع الفارق باطل فكيف بانعدام الشبه، والقول بالرأي مخالف لكل الأصول السابقة. وعليه فهذه المقاصد لا تثبت إلا من أربعة وجوه كما قرر أهل الأصول في الأحكام الثابتة بظاهر النص (٢)، وهي: الثابت بعبارة النص، والثابت بإشارته، والثابت بدلالته، والثابت بمقتضاه.
ولبيان هذه الأصول نضرب مثالاً عظيماً من آيات الأحكام الظاهرة في تأديب المسلمين وتنظيم أحوالهم، وهو قوله تعالى ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: ٢٣] فمن الثابت بعبارة النص أو ظاهره هو النهي عن التأفف للوالدين، والنهي عن نهرهما من باب التحريم، والأمر بمخاطبتهم بأحسن الأقوال وأكرمها، والثابت بالإشارة هو تحريم ما بين التأفف (وهو لفظ معلوم وكل ما قام في مقامه من الألفاظ) والنهر (وهو المبالغة في الزجر) بألفاظ شائنة، أو صوت مرتفع سواء كانت استعلاءً أو سبّاً أو استهزاءً أو حتى غمزاً ولمزاً، فلو أنك رأيت من يسب أباه فأشرت بقولك له (فلا تقل لهما أف) لأقمت عليه الحجة، ولما رد عليك إلا إن كان عاصياً لأوامر الله، فتكون بذلك قد أشرت إلى ما أشار الله له في سياق كلامه مع أن اللفظ لم يأت لأجله. ولكنك إن رأيت من يضرب أمه مثلا فلن تقول له (ولا تقل لهما أف)
(٢) الاحكام الثابتة بظاهر النص دون القياس والرأي - أصول السرخسي ج١ ص٢٣٦.