بيان معنى قوله تعالى (ثم استوى إلى السماء)
قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ﴾ [البقرة: ٢٩]، قبل الحديث عن الفعل (استوى) نقول: هناك فعل لازم وآخر متعدٍ، فتقول مثلاً: أكل الرجل الطعام.
ف (أكل) فعل، والرجل فاعل، فهذا الفعل (أكل) تعدى إلى مفعول به، وهو الطعام.
والمتعدي يتعدى بأحد طريقين: فإما أن يتعدى بنفسه، نحو (أكل الرجل الطعام) وإما أن يتعدى بحرف جر، فتقول: جلس الرجل على الكرسي.
فـ (جلس) فعل والرجل فاعل و (على الكرسي) جار ومجرور، فتعدى بـ (على).
في فعل في اللغة اسمه: فالفعل (استوى)، جاء في القرآن على ثلاثة أحوال: جاء لازماً غير متعد، وجاء متعدياً بحرف الجر (على)، وجاء متعدياً بحرف الجر إلى، أعيد جاء ماذا؟ لازماً غير متعدي وجاء متعدياً بحرف الجر على وجاء متعدياً بحرف الجر (إلى).
وفي كل حال له معنى.
فقد قال الله جل وعلا عن كليمه موسى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى﴾ [القصص: ١٤]، فلم يذكر بعد (استوى) شيء، فإذا جاءت الفعل (استوى) وليس بعده شيء فمعناه الكمال والتمام، أي أن موسى تم وكمل عقله ورجولته.
وأما التعدي بـ (على) فقد ذكره تعالى في استوائه على العرش في سبعة مواضع من القرآن، منها قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥]، فإذا تعدى بحرف الجر على يكون معناه العلو والارتفاع، ومنه قوله تعالى: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾ [الزخرف: ١٣]، أي: علوتموه وارتفعتم عليه وأما إذا تعدى بحرف الجر (إلى) فإن معناه القصد، أي قصد شيء آخر بعد شيء قبله، وهو الذي بين أيدينا، قال الله جل وعلا: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ٢٩]، فالله تعالى خلق الأرض قبل قبل السماء، فخلق الأرض في يومين، وقبل أن يتمها جل وعلا -وهو القادر- قصد السماء فخلقها في يومين، كما قال تعالى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [فصلت: ٩ - ١٢] وبعد أن خلق الأرض في يومين عاد جل وعلا -وهو القادر على كل شيء- فأكمل خلق الأرض، فأصبح خلق السماوات والأرض جملة في ستة أيام، ولكن السماء خلقت في يومين والأرض خلقت في أربعة أيام، فقوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [فصلت: ١١] أي: قصد السماء.
لأنه تعدى بحرف الجر (إلى) ثم لما أكمل خلق السماء عاد جل وعلا فأكمل خلق الأرض، ولذلك قال جل وعلا في النازعات: قال: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: ٢٧ - ٣٠]، ولم يقل: والأرض بعد ذلك خلقها؛ لأنه تعالى خلقها من قبل، ولكن تركها جل وعلا غير منتهية لحكمة أرادها، ثم أكمل خلقها.