تفسير قوله تعالى: (المص) إلى قوله: (ولنسألن المرسلين)
قال الله جل وعلا: بسم الله الرحمن الرحيم.
﴿المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: ١ - ٢].
هذا أول السورة، وأنا لا أبدأ تفسيراً قبل أن أفسر أول آية في السورة نفسها وقد نتجاوز بعض الآيات، لكن أول آية في السورة لا بد من تفسيرها؛ لأنها مدخل.
(المص): هذه من الحروف المتقطعة، وقد مرت معنا في دروس سابقة، وأنا أتكلم إجمالاً باعتبار التدريس العام، فقد مر معنا أنها من الذي اختص الله جل وعلا بعلمه، هذا قول جمهور العلماء وهو الأظهر.
ثم قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: ٢]، أي: هذا كتاب، فحذف المبتدأ لدلالة الخبر عليه على قول الكسائي ومن تبعه، والمعنى: أن هذا الكتاب المقصود به: القرآن، وقد نكرت هنا: (كتاب) لدلالة التعظيم، أي: أن هذا الكتاب أعظم من أن يعرف، فإذا عرف في آية أخرى فباعتبار علميته واشتهاره، (أنزل إليك) والمخاطب في المقام الأول هنا: النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: ((فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ)) فسر الحرج بأحد تفسيرين: التفسير الأول: الشك.
فيصبح معنى الآية: هذا كتاب من الله فلا يكن في قلبك شك منه، وإذا قلنا بهذا التفسير أصبح لهذه الآية لها قرائن كقوله تبارك وتعالى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [يونس: ٩٤]، لكن اختار جمهور العلماء أن المراد بالحرج هنا: الضيق.
فيصبح معنى الآية: فلا يكن في صدرك ضيق منه، ولا يفهم أن النبي ﷺ جُبل على ضيق الصدر فهذا محال؛ لأن الله هيأه ﷺ لئن يختم به النبوات، ويتم به الرسالات، وليس في القرآن أصلاً ما يدعو للضيق في المؤمنين.
إذاً: ينجم الضيق من أن هذا القرآن آياته واضحة ظاهرة بينة لا تحتاج إلى دليل، ولا تحتاج إلى إثبات أنها من عند الله، فالعرب أفصح البلغاء، وأبلغ الفصحاء، ومع ذلك عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فينجم الضيق من هذا، وهذا كالطالب تعلمه ولا يصيبك الضيق ولا الحرج ولا الغضب على طالب لم يفقه مسألة صعبة، وإنما يصيبك الحرج والضيق على الطالب الذي لا يفهم المسألة الواضحة، فالمسألة الواضحة البينة الظاهرة لا تحتاج إلى علم، فالضيق الذي يصيبه ﷺ من أن دلائل نبوته قاهرة ومعجزاته ظاهرة، ومع ذلك لم يؤمنوا به! فنجم عن هذا ضيق في صدره، فالله يقول له: فليكن صدرك منشرحاً بهذا القرآن؛ لأنه أجل كتاب، وأعظم منزل، به الهداية والرحمة لكل أحد أراد أن ينتفع به، وإن لم ينتفع به قومك وكذبوه وردوه عليك.
ثم ذكر العلة من إنزاله، فاللام هنا لام التعليل (لِتُنذِرَ) ولذلك جاء الفعل بعدها منصوباً (لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) ولم يقل الله من المنذَر بالقرآن، بل قال: (لِتُنذِرَ بِهِ) لكن لما ذكر الذكرى قال: (وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ).
إذاًَ: من المنذَر بالقرآن؟ أعظم قواعد العلم أن القرآن يفسر بالقرآن، والله يقول: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ [مريم: ٩٧].
إذاً: المحذوف هنا هو الموجود في سورة مريم: ((وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا))، يعني: الكفار، أي لتنذر به الكافرين، والإنذار في اللغة: هو الإعلام المقرون بالتهديد، وعلى هذا تنجم قاعدة: أن كل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذار.
قال: (لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) فإن قال قائل: إن الله قال في آية أخرى: إنه ينذر بالقرآن المؤمنين، قال جل وعلا: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ [يس: ١١]، فيجاب عن هذا: بأن الإنذار على قسمين: إنذار عام، وإنذار انتفاع.
فالإنذار العام ينصرف للكفار، أما إنذار الانتفاع فينصرف إلى المؤمنين.
ثم قال الله جل وعلا: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٦]، فأخبر الله جل وعلا أن اثنين يُسألان يوم القيامة: المرسلون والمرسل إليهم، لكن الله لم يقل هنا: ماذا يسأل هؤلاء، ولا ماذا يسأل أولئك،
و ﷺ أن الله قال في الأول: ((فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ)) قال موضحاً: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٦٥]، فيكون السؤال للأمم (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) وهذا ليس من تفسير صالح ولا زيد ولا عمرو، بل هو تفسير القرآن بالقرآن.
قال الله في القصص: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٦٥]، هذا حل الإشكال الأول: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ).
والإشكال الثاني قال الله: ((وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)) ماذا يسأل المرسلون؟ قال الله في المائدة: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٩]، فالإشكال متضمن في الإجمال الذي في سورة الأعراف، وقد فصل في موضعين: فصل في القصص، وفصل في المائدة، وهذا من تفسير القرآن بالقرآن.


الصفحة التالية
Icon