بيان المراد بالذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات
أما تفسير الآيات فإن العلماء رحمهم الله اختلفوا في معنى: (الذاريات)، و (الحاملات)، و (الجاريات)، و (المقسمات)، وجمهور المفسرين على أن المقصود بـ (الذاريات) الريح، ويؤيده من القرآن قول الله جل وعلا: ﴿تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ﴾ [الكهف: ٤٥].
وأن المقصود بقوله تعالى: ﴿فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا﴾ [الذاريات: ٢] السحب، والذي تحمله هو الماء.
وأن المقصود بقوله تعالى: ﴿فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا﴾ [الذاريات: ٣] السفن، تجري بيسر وسهولة في البحر، ويؤيده من القرآن قوله تعالى: ﴿وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ﴾ [الرحمن: ٢٤].
وأن المقصود بقوله تعالى: ﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا﴾ [الذاريات: ٤] الملائكة، ولكنهم يقولون: ليس المقصود جميع الملائكة، وإنما المقصود أربعة منهم: وهم جبريل للوحي والحرب، وميكال للرحمة والغيث والرياح، وإسرافيل للنفخ في الصور، وملك الموت لقبض الأرواح، وإن قدمت ملك الموت على إسرافيل كان ذلك أليق في الخطاب، فملك الموت لقبض الأرواح، وإسرافيل للنفخ في الصور.
فهؤلاء الأربعة من مخلوقات الله، وأقسم الله جل وعلا بهم، وأداة القسم هنا هي (الواو)، فمعناها القسم، وعملها جر ما بعدها ولذلك قال تعالى: ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ [الذاريات: ١ - ٦]، فالجواب هنا جواب القسم، لتأكيد ما كان القرشيون ينكرونه من قبل، فالسور المكية نزلت على قوم ينكرون البعث والنشور، فأهم قضية عالجتها السور المكية هي قضية الإيمان بالله واليوم الآخر.
ومن جملة الآثار التي تدل على صحة هذا التفسير -أي أن (الجاريات) هي السفن، (والحاملات) هي السحب، (والذاريات) هي الريح، (والمقسمات) هي الملائكة- ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه أنه صعد المنبر ثم قال في أول من خلافته أيها الناس! اسألوني قبل أن تفقدوني؛ فإنكم لن تسألوا بعدي من هو مثلي.
فقام إليه رجل يقال له ابن الكواء، فقال: يا أمير المؤمنين! ما (الذاريات ذرواً)؟ فقال: الريح، قال: فما (الحاملات وقراً)؟ قال: السحب.
قال ما (الجاريات يسراً)؟ قال: السفن، قال فما (المقسمات أمراً)؟ قال: الملائكة.
فهذا الأثر يدل على صحة قول جمهور المفسرين بما ذكرناه.
وبعض العلماء يقول: إن (الذاريات ذرواً) هي المرأة عندما تحمل، وبعضهم حملو على غير ذلك، ولكننا نقف هنا عند قول جماهير العلماء؛ لأن الأثر يدل عليه، وكذلك يدل عليه كلام الرب جل وعلا كما بينا في ذكرنا لما يدل على الجاريات وعلى الذاريات.