أنواع الرحمة الإلهية
وليس لرحمة الله جل وعلا حد تنتهي إليه، قال الرب تبارك وتعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٦]، وهذه الرحمة العظيمة بها يعيش الخلائق أجمعون.
ورحمة الله تبارك وتعالى منها ما هو عام ومنها ما هو خاص، فأما رحمته تبارك وتعالى العامة فهذه ينالها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ومن مظاهر هذه الرحمة التي لا تختص بإيمان أو كفر إنزال الغيث، فإن الغيث وإنزاله من أعظم مظاهر رحمة الرب تبارك وتعالى، ويستفيد منه البر والفاجر، والمؤمن والكافر، والذكر والأنثى، والعربي والأعجمي، وغير ذلك مما هو معروف، قال الله جل وعلا عن الرياح التي تحمله: ﴿يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [الأعراف: ٥٧]، وقال الله تبارك وتعالى عن النبت الذي ينبت والأرض عندما تخضر بعد نزول رحمته: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى﴾ [الروم: ٥٠].
ومن مظاهر رحمته تبارك وتعالى: إطعامه للجائع، وجاء في الحديث القدسي: (إني والجن والإنس في نبأ عظيم؛ خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد، أتقرب إليهم بالنعم ويتقربون إلي بالمعاصي، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري).
فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يعبده وحده دون سواه، ويشكره تبارك وتعالى آناء الليل وأطراف النهار على فضله وإنعامه.
وأما مظاهر رحمته الخاصة جل وعلا فهذه نصيب المؤمنين المتقين الذين يعرفون ربهم تبارك وتعالى، فتأتيهم رحمة الله الخاصة بهم، وهذه الرحمة واسعة الأرجاء، متعددة المظاهر.
فمن مظاهر هذه الرحمة: ستره تبارك وتعالى على من يعصيه، وفي الحديث: (إن الله حيي ستير)، كما أن من مظاهر رحمته جل وعلا لعباده قبول التوبة، وقد جاء في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً؛ فاستغفروني أغفر لكم)، نستغفر الله العظيم ونتوب إليه.
كما أن من مظاهر رحمته الخاصة توفيقه تبارك وتعالى لعباده للعمل الصالح والعلم النافع، فإن هذا من رحمة الرب جل وعلا لعبده.
كما أن من رحمته ومعيته الخاصة لبعض عباده استجابته لدعائهم، وغوثهم عند النوازل، وقد ذكر الله جل وعلا جماً غفيراً ممن عبدوه ولجأوا إليه واستغاثوا به كيف أعطاهم، وأغاثهم وأعانهم، وأكرم سؤلهم جل وعلا، قال الله جل وعلا: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٣ - ٨٨].
فاختلفت حوائجهم ولم يختلف أنهم لا يسألون إلا الله، ثم قال جل وعلا: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٩ - ٩٠]، وغير ذلك مما قصه الله في كتابه، فإن الناظر بعين البصيرة والإنصاف إلى ما حوله يرى من مظاهر رحمة الله جل وعلا بخلقه ما لا يمكن أن يحصى أو يعد، ورحمة الله جل وعلا أعظم مما تراه بعينك، فإن الله جل وعلا كتب كتاباً عنده فوق العرش: (إن رحمتي غلبت غضبي).
وكان رجل من الصالحين يقال له: حاتم يسكن في خراسان، فكلما عزم على الحج خاف على بناته من بعده، فقالت له ابنته الكبرى: يا أبت! إنما الرازق الله فحج، فعزم على الحج، وترك الصغار في عهدة أختهم الكبرى فرعتهم، فلما أمسى الليل إذا بهم يتضاغون عند قدميها ويسألونها الطعام، ولم يكن في البيت شيء، فبينما هم على تلك الحال إذا بأمير يدخل القرية ويطرق الباب ومعه حشمه وخدمه وماله ويسألهم الماء فليس معه ماء، والماء يوجد في بيوت الأغنياء كما يوجد في بيوت الفقراء، فلما سألهم الماء أخرجوا له جرة ماء كانت عندهم، ولما شربها جال بطرفه في البيت فعرف رقة حالهم ومسكنتهم وفقرهم.
فلما هم بالخروج أخرج لهم صرة فيها مئات الدنانير، فقالت المرأة العارفة بربها: هذا مخلوق نظر إلينا فاستغنينا، فكيف بنظر أرحم الراحمين إلينا؟ نسأل الله أن يكلنا وإياكم إلى رحمته.