فوائد من نزول سورة الجن
وفي ذلك جملة من الفوائد: الفائدة الأولى: أن الجن موجودون، وهذا رد على كل من أنكر وجود الجن من الملاحدة أو بعض الفلاسفة، والدليل على وجودهم ظاهر بين، فقد حكى الله جل وعلا عنهم أنهم يستمعون القرآن، وأن الله تعالى صرفهم لاستماع القرآن إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن الله خاطبهم بالقرآن في قوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ١٣].
الفائدة الثانية: حفظ الله لوحي نبيه صلوات الله وسلامه عليه، فإن هذا الوحي الذي أنزل على خير نبي صلوات الله وسلامه عليه كان من إرهاصاته العظمى أن مقاعد الجن التي كانت لهم في السماء قد حبسوا عنها وحيل بينهم وبينها، حيث قالت الجن: ﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا﴾ [الجن: ٩].
فقولهم: ﴿يَسْتَمِعِ الآنَ﴾ [الجن: ٩] يدل على أن الوقتين متغايران، ففي الوقت الأول كان بإمكانهم أن يسمعوا، أما بعد بعثته ﷺ فقد حيل بينهم وبين السماء، كما قال تعالى عنهم: ﴿فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا﴾ [الجن: ٩]، وهذا من عناية الله تبارك وتعالى برسولنا صلوات الله وسلامه عليه.
الفائدة الثالثة: دلت السورة جملة على أن الجن منهم مؤمنون ومنهم كفار، ودليلها من السورة نفسها، وهو أنهم قالوا: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا﴾ [الجن: ١١].
وكلمة (طريق) إذا جمعتها وأنت تقصد الطريق المعبد الذي تمشي عليه فإنك تجمعها على (طرق)، وإن جمعتها وأنت تقصد الطريق المعنوي، كطريق الخير وطريق الشر، وطريق الهدى وطريق الضلالة -فإنك تجمعها على (طرائق).
وهنا قالت الجن: ﴿كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا﴾ [الجن: ١١] أي: كنا جماعات وأهواء وأحزاباً وفرقاً ومللاً ونحلاً متفرقة، ولا يسلم منها إلا فرقة واحدة، وهي التي أرادت الحق، كما قال تعالى عنهم: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ).
وكل أمة فيها الصالحون وفيها غير صالحين، فتتفاوت أحوالهم ودرجاتهم ومكانهم عند الرب تبارك وتعالى.
الفائدة الرابعة: أن الجن يسمون جناً لاستتارهم، بمعنى أنهم لا يرون بالعين، والجذر اللغوي لكلمة (جن) يدل على الاستتار، ولذلك يسمى الطفل في بطن أمه جنيناً، وسميت جنة عدن -أدخلنا الله وإياكم إياها- بذلك لأنا لم نرها، قال الله عن خليله إبراهيم: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا﴾ [الأنعام: ٧٦] يعني: أظلم عليه الليل ولم يعد يرى.
فالجن مأخوذ اسمهم من هذه المادة؛ لأنهم لا يرون بالعين بقدرة الله، كما قال تعالى عن الشيطان: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: ٢٧].