وقفة نحوية في أوائل سورة إبراهيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ الله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فالسورة التي سنشرع إن شاء الله في التعليق على بعض آياتها هي سورة إبراهيم، وهي السورة التي تلي سورة الرعد.
وقد مضى في تعليقنا على سورة الرعد بعض من الفوائد نذكر ببعض منها: قلنا: إن الله جل وعلا قال: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ [الرعد: ١٢ - ١٣].
وقلنا إن السحاب يحمل النقيضين: الماء والنار، وقلنا: إن في الماء الإحياء، وفي النار الإفناء، فالماء فيه غوث الناس إذا أجدبت الأرض، والصواعق -عياذاً بالله- فيها إفناؤهم.
كما ذكرنا أنه لا نعلم عن النبي ﷺ حديث صحيح ينقل عنه فيما يقول الإنسان إذا رأى الرعد، أو سمع الرعد.
والرعد لا يرى بخلاف البرق، والبرق لا يسمع بخلاف الرعد.
لكن قلنا: إن هناك حديث موقوف على عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول إذا سمع صوت الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده.
وقلنا: إن الأثر الموقوف على الصحابي أفضل من رأينا.
إن سورة إبراهيم سميت باسم نبي من الأنبياء، بل سميت باسم شيخ الأنبياء وإمام الحنفاء كما سيأتي: وهذه السورة سورة مكية، وسنشرع فيها في بعض الوقفات إلا إن هناك وقفة نقولها من باب الاضطرار، ولا يمكن أن نتجاوزها، وهي في أول السورة، وتتعلق بالنحو.
يقول الله جل وعلا: ﴿الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم: ١]، وتنتهي الآية ثم يقول الله جل وعلا: ﴿اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ [إبراهيم: ٢].
فجاءت لفظ الجلالة مجرورة بالكسر، والناس جبلوا في الحديث أنهم يرفعون أول الكلام على أنه مبتدأ، لكن هذه الآية لفظ الجلالة فيها لا يعد على أنه أول الكلام، وإنما هو متعلق عموماً بما قبله، فيصبح الإعراب النحوي لقوله تعالى: ﴿اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ [إبراهيم: ٢].
أن لفظ الجلالة بدلاً من قوله جل وعلا: ﴿الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم: ١].
والبدل عند النحاة ينقسم إلى أقسام، منها بدل كل وهو هنا بدل كل، مثلاً تقول: قرأت عن سيرة أمير المؤمنين عمر، فـ عمر بدلاً من قولك أمير المؤمنين، فأمير المؤمنين هو عمر في هذا السياق، وعمر هو أمير المؤمنين، بدليل أنك لو حذفت أحدهما لم يتغير المعني، تقول قرأت عن سيرة أمير المؤمنين، أو تقول قرأت عن سيرة عمر.
مثلها هنا تماماً قوله جل شأنه: ﴿إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ [إبراهيم: ١ - ٢].
فلو قلت في غير القرآن إلى صراط الله، صح المعنى، ولو قلت إلى صراط العزيز الحميد الذي له ما في السموات وما في الأرض صح المعنى، فالله هو العزيز الحميد، والعزيز الحميد هما إسمان من أسماء الله.
وهناك نوع آخر يسمى بدل بعض، تقول مثلاً: أكلت الرغيف بعضه، فقولك بعضه تعرب بدلاً عن الرغيف، فالرغيف مفعول به منصوب، وبعضه كذلك بدل منصوب، يأخذ حكم المبدل منه، وإنما قصدت أنك لم تأكل الرغيف كله.
وهناك نوع آخر يسمى بدل اشتمال، والفرق بينهما: أن بدل البعض شيء محسوس يمكن تجزئته، كما قلنا: أكلت الرغيف بعضه، قرأت الكتاب ثلثه، فثلث الكتاب يمكن تحديده.
وبدل الاشتمال غالباً لا يمكن تحديده، ونظيره في القرآن قول الله جل وعلا: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٧].
هم يسألون عن القتال في الشهر الحرام، فأصل الآية في غير القرآن: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، لأن القرشيين والمؤمنين يعرفون الشهر الحرام وأحكامه.
وهذا يسمى بدل اشتمال، فأضحى البدل ثلاثة: بدل كل، وبدل بعض، وبدل اشتمال.