عاقبة الأمم المكذبة
هذا التهديد من الأمم كان لا بد أن يقابله ثبات من الرسل، والثبات من الرسل لا يمكن أن يأتي إلا بتثبيت من الله، فالصلة بينه وبين رسله الوحي، قال الله جل وعلا: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ﴾ [إبراهيم: ١٣]، وكلمة ربهم تشعر بالعطف والحنان، وأنه تبارك وتعالى معين لهؤلاء الرسل، وأنه تبارك وتعالى يرعاهم ويتعهدهم، وهم صادقون بالتوكل عليه: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ﴾ [إبراهيم: ١٣].
وهذا الوعد العام هنا: جاء مفصلاً في سور كثيرة، فقد ذكر الله قوم صالح، وقوم نوح، وقوم هود، وغيرهم من الأقوام، كيف أن الله جل وعلا نجاهم وأهلك القوم الضالمين: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ﴾ [إبراهيم: ١٣].
وهذا وقع، وقع على وجه الإجمال، ووقع على وجه التفصيل: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [إبراهيم: ١٣ - ١٤].
ثم بين جل وعلا أن هذا الوعد إنما هو خاص بقوم معينين فقال جل وعلا: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ [إبراهيم: ١٤].
فأعظم ما يتم به النصر في الدنيا والآخرة الخوف من مقام الله، وما فاز من فاز من العباد الصالحين بسعادة الدنيا والآخرة إلا بالخوف من الله، والسعادة التي لا تظهر في مال أو في جاه أو في غير ذلك من متاع الدنيا إنما يشعرون بها في قلوبهم إذا وقفوا بين يدي الله في الصلوات وفي السجود وفي التسبيح وفي الذكر، وفي أي مكان وجدوا يشعرون بلذة الإيمان في قلوبهم.
هذا الأمر إنما وجدوه لما وقر في قلبهم الخوف من مقام الله تبارك وتعالى.
ورتب الله جلا وعلا على الخوف من مقامه أعظم الهبات، قال الله جل وعلا: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٤٦].
وقال: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: ٤٠ - ٤١].
وتزكية الإنسان لنفسه ليست التزكية اللفظية التي معناها أن يمدح نفسه، بل معناها أن يعمل من الصالحات التي يشعر بها نفسه أنه يخاف من مقام الله جل وعلا، فإذا ذكر بالله تذكر، وإذا قيل له اتق الله تراجع، وإذا خوف بالله خاف.
هذا هو الخوف من مقام الرب تبارك وتعالى، أما أن يقولها الإنسان بلسانه ثم يذكر بالله ويخوف به ويقال له: اتق الله فيصر على معصيته، ويمضي في سلوكه، ولا يعبأ ولا يبالي بشيء من الأمر، هذا لم يهب ولم يخف من مقام الله جل وعلا حق الخوف وحق الخشية: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ [إبراهيم: ١٤].
ثم قال جل وعلا: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا﴾ [إبراهيم: ١٥].
الألف والسين والتاء للطلب، تقول: استطعمتك فأطعمني، أي طلبت منك الطعام فأطعمني.
فقوله: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا﴾ [إبراهيم: ١٥].
هذا يحتمل أمرين: إما أن يكون أن الرسل هم الذين استفتحوا، وهذا أقرب لسياق الآية.
وإما أن تكون الأمم.
فالرسل يكون استفتاحهم بأن يطلبوا النصر من الله، كقول نوح عليه الصلاة السلام: ﴿رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ [القمر: ١٠] فهذا طلب النصرة من الله، والحالة الثانية -وقد وقعت كثيراً-: أن الأمم أنفسها تضجر بالأنبياء، وتمل وتستخف بمقام الله، فتطلب من الله جل وعلا الفصل، كما قال الله جل وعلا عن قريش: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢].
فالمشهور أن الذي قالها هو أبو جهل قبل معركة بدر، حيث قال: اللهم أينا أقطع للرحم فأحنه الغداة، يستفتح بذلك عذاب الله، ولا يدري أن العذاب سيأتي إليه، وكقول ثمود لصالح: ﴿ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٧٧] إلى غير ذلك.
فالأمم تتعجل العذاب، وهذا استفتاحها، واستفتاح الرسل طلب النصرة من الله: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا﴾ [إبراهيم: ١٥].
قال الله: ﴿وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٥] سواء طلب الكفار العذاب، أو طلب الرسل النصرة سيقع أمر الله، فإذا وقع أمر الله، فإنما يخسر أهل الكفر، قال الله تعالى: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٥].
جبار عنيد: كل ظالم جائر مكابر، غير متذكر من تذكير الله تبارك وتعالى له، ليس له إلا الخيبة في الدنيا والآخرة، وهذا قد يحصل حتى لأحد أهل المعاصي من الناس إذا أصر على معصيته.
قال الماوردي في أدب الدنيا والدين، وحكاه عنه القرطبي في الجامع، ونسب بعض المفسرين إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهو خليفة أموي أنه استفتح القرآن، وهذه عادة إلى اليوم موجودة في بعض البلدان العربية، فإذا أرادوا أن يسموا الولد يأخذ أحدهم المصحف، ويفتحه على غير شيء بين، فتظهر كلمة فيسمون بها الولد، فبعض الناس خاصة في تركيا يسمون بالطريقة هذه، وهذا يسمى نوع من الاستفتاح العملي.
يقولون: إن الوليد لما آلت إليه الخلافة أراد أن يرى حضه، فأخذ المصحف واستفتح، ليرى أين حضه من الخلافة، فلما فتح المصحف جاءته هذه الآية: ﴿وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٥].
فيقال -والعهدة على من روى- إنه مزق المصحف، وقال: أتوعد كل جبار عنيد فها أنذا جبار عنيد إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد هذه القصة وإن اشتهرت، وإن كان في بعض خلفاء بني أمية من الفجور والفسق ما هو معروف لكن نقول يبعد عندنا جداً أن يفعلها مسلم، لكنني ذكرتها هنا عمداً حتى أبين الخطأ، وهذا خير من أن نسكت عنه فتأخذه من غيرنا دون أن تعرف أنه خطأ واضح.
فنحن نستبعد أن يفعلها الوليد، أو يفعلها أي مسلم؛ لأن تمزيق المصحف كفر لا محالة، وأمة محمد أكرم على الله من أن يولي عليها كافر.
وأن يكون الإمام المسئول عن بيضة المسلمين كافراً هذا لا يمكن أن يقع؛ لأن هذه الأمة كريمة على الله، وقد كانت بنو أمية هم بيضة الإسلام.
قال: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٥ - ١٦].
من ورائه جهنم يعني: أمامه جهنم، وهذا أمر يقوله العامة اليوم، وهي لغة صحيحة، فمثلاً يأتيك شخص يتسحر عندك في رمضان، وأنت حريص بكرمك على أن تطعمه، فرأيت هذا الضيف لا يأكل كثيراً، فأنت حتى ترغبه في الطعام، تقول له كل فإن وراءك ستة عشر ساعة صيام.
ومعنى وراءك: أمامك.
حتى اللغة دلت عليها، يقول لبيد: أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع إن تراخت منيتي يعني: لم تأتني المنية ورائي.
وقوله: تحنى عليه الأصابع يعني: يحدودب ظهري، وسأستخدم عصى، وأحني عليها أصابعي.
فقصد بقوله: أليس ورائي.
أن ليس أمامي، وقد جاء في القرآن وراء بمعنى أمام، وذلك في سورة الكهف، قال الله جل وعلا: ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ [الكهف: ٧٩].
أي أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا، فالخضر كان يعلم أن في الطريق سيجدون ملك يأخذ كل سفينة غصباً، المقصود أن وراء تأتي بمعنى أمام، وهذا قول الجمهور.
وقال بعض العلماء: إن وراء هنا بمعنى بعد، وهذا قريب جداً، وقد يكون الاختلاف لفظي.
قال تعالى: ﴿مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ﴾ [إبراهيم: ١٦].
وجهنم هي النار المعروفة، وهي التي أعدها الله جل وعلا لأهل معصيته، وقد نعتها الله بأن لها سبعة أبواب، وبعضها فوق بعض.
وأما الجنة فإن أبوابها أفقية، بجوار بعضها البعض، والله أعلم.
لكن نص القرآن على أن لجهنم سبعة أبواب في سورة الحجر، فالله يقول: ﴿مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٦].
قال تعالى: ﴿يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ [إبراهيم: ١٧].
الإنسان إذا أكره على طعام أو شراب يشربه لا يخلو من أحد حالين: إما أن يرده قبل أن يشربه، يعني يمتنع أن يصل إلى جوفه، فيكون قد استراح منه.
الحالة الثانية: أن ينتصر عليه، ويغمض عينيه -كما يقول العامة- ويشربه.
ففي كلا الحالتين عذاب.
فلا هو بالذي رده فاستراح منه، ولا هو بالذي شربه بقدرته فلم يؤثر فيه، وإنما كان كما قال الله: ﴿يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ [إبراهيم: ١٧].
لما قال الله جل وعلا: ﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ [إبراهيم: ١٧] فهمنا أن قوله جل وعلا ويأتيه الموت معناه أسباب الموت، فكل ما جرت العادة عقلاً ونقلاً أنه يقتل، ويهلك ويميت لا يكون مميتاً يوم القيامة، لأنهم لو ماتوا لاستراحوا: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ [الزخرف: ٧٧].
لكن ليس لأهل جهنم راحة، فالله يقول: ﴿يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ [إبراهيم: ١٧].
كل أسباب الموت العقلية والنقلية حاضرة ولا يحضر الموت، ﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ [إبراهيم: ١٧].
زيادة على هذا أعاذنا الله منها.
هذا المقطع الأول الذي أردنا أن نتكلم عنه.


الصفحة التالية
Icon