تأملات في قول الله تعالى: (ولا تمش في الأرض مرحاً)
ثم قال الله جل وعلا: ﴿وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [الإسراء: ٣٧].
هذه الآية أصل في ذم الكبر، والكبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام: كبر على الله، وكبر على الرسل، وكبر على سائر الخلق.
أما الكبر على الله وعلى رسوله فهو مخرج من الملة، بل إن الكبر على الله أعظم الكفر، ومما ورد في القرآن قول فرعون: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨]، وقوله: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات: ٢٤]، وقول النمرود: ﴿قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨]، فهذا من الكبر على الله جل وعلا، ولم يعرف عبر التاريخ الإنساني إلا في أفراد معينين تكبروا على الله ووصلوا إلى هذه المرحلة وادعوا الألوهية.
أما الكبر على الرسل فهو عامة ذنوب الأمم، قال الله جل وعلا عن بعض الأمم: ﴿أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾ [التغابن: ٦]، وقال عن آل فرعون: ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾ [المؤمنون: ٤٧]، وقال عن كفار قريش: ﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١]، فالكبر على الرسل عامة ذنوب الأمم وهو مخرج من الملة.
أما الكبر على الناس فالأصل: أنه غير مخرج من الملة، لكن قد تقع حالات تكون متلبسة بانتقاص الله جل وعلا أو انتقاص رسوله فتكون مخرجة من الملة، وإلا فالأصل أنه غير مخرج من الملة، لكنه من أعظم الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، وتخريج الحديث -على معتقد أهل السنة أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار إذا ماتوا على التوحيد- على أنه لا يدخل الجنة ابتداءً.
ثم قال الله جل وعلا: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ [الإسراء: ٣٨]، (كل) جاءت مضافة إلى اسم الإشارة (ذلك).
و (ذلك) عائد على جملة ما تقدم من قوله سبحانه: ﴿لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ [الإسراء: ٢٢]، ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣]، ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى﴾ [الإسراء: ٣٢]، ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ﴾ [الإسراء: ٣١].
وما مضى من كل ذلك فيه السيئ وفيه الحسن، ولهذا قيد الله فقال: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ [الإسراء: ٣٨]، ولم يقل كله؛ لأنه يوجد فيه شيء حسن.
وكلمة (مكروهاً) هنا بمعنى: محرم، ليس بمعنى المكروه في اصطلاح الفقهاء، وإنما هو محرم أشد التحريم، ولذلك نهى الله جل وعلا عنه.