التخصيص المنفصل
والتخصيص الثاني تخصيص منفصل، وهو الذي بين أيدينا، حيث يقول الرب جل وعلا: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، فقوله تعالى: ﴿حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] يدل عمومه على أن المشرك يقتل في أي مكان؛ لأن ربنا يقول: (حيث وجتموهم)، ولكن هذا الكلام لا يصح على عمومه؛ لأن هذه الآية مخصص بآية أخرى تدل على أنه توجد أمكنة لا يجوز قتل المشرك فيها، وهي أمكنة الحرم المكي، فالله يقول: ﴿وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ [البقرة: ١٩١]، فيجمع بين الآيتين بأن يقال: إن آية التوبة عامة، وآية البقرة مخصصة لعموم آية التوبة، فالمشرك يجوز قتله حيث وجدناه إن لم يكن له عهد ولا ذمة ولا ميثاق، إلا في المسجد الحرام.
فلو جاء إنسان وقتل أحداً في المسجد الحرام وقال: إن الله يقول: (حيث وجتموهم) قلنا له: إن هذه الآية العامة خصصت بقول الرب جل وعلا: ﴿وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ [البقرة: ١٩١]، وهذا تخصيص مكان.
ثم إن الله تعالى يقول: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٥] والآية تعم كل مشرك، ولكن لا يجوز قتل كل مشرك، فالآية هنا مخصصة بالسنة، فلا يجوز قتل النساء، ولا يجوز قتل الرهبان، ولا يجوز قتل الأطفال، فقد دلت السنة بآثار عدة متعاضدة على أنه لا يجوز قتل النساء، ولا قتل الصبيان، ولا قتل الرهبان.
فالعموم الذي في قوله جل وعلا: (المشركين) خصصته السنة، وأخرجت السنة النساء، وأخرجت الأطفال، وأخرجت الرهبان، وأخرجت الشيخ الكبير الهرم إن لم يكن له دور في المعركة، أما إذا كان له دور -بحيث يدبر أو يفكر أو يخطط للمعركة- فإنه يجوز قتله ولو كان شيخاً فانياً، مثل دريد بن الصمة، فـ دريد بن الصمة كان شيخاً كبيراً فانياً، وكان ذا عقل وتدبير، وهو أحد فرسان العرب، أدرك يوم حنين وهو كبير، وكان العرب من هوازن قد قدموا رجلاً يقال له: عوف بن مالك، وكان دريد أكثر خبرة منه، فأتي به إلى المعركة وهو أعمى، فكان يتحسس الأرض ويسأل: أين نحن؟ فيقولون: أنت في ديار كذا، فيقول: ليست ديار حرب، اخرجوا خذوا اتركوا، فخاف الزعيم من نفس القبيلة أن يأخذ دريد الأمر منه، فما أراد أن يكون لـ دريد فيها نصيب، فأتى بالسيف وجعل نصله قائماً، وثنى بطنه على السيف وقال: إن لم تطعني هوازن قتلت نفسي.
يريد أن يخرج دريداً منها بالكلية.
فهوازن كانت متعاطفة معه، فقالوا له: أنت الزعيم، والذي تقوله هو الذي يمضي، فلن نأخذ برأي دريد، فرفع نفسه عن السيف، ووقعت الهزيمة عليه، وكان رأي دريد أشد صواباً، ولكن لم تأخذ به العرب، وهو قائل المثل المشهور: وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد وقد قتل دريد بن الصمة المسلمون وهو شيخ كبير؛ لأنه كان يخطط، وله دور في المعركة، أما الشيخ الكبير الذي ليس له يد في المعارك فإنه يترك.
يقول تعالى: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ [التوبة: ٥] وهذا كله أمر بتضييق الخناق عليهم.