بيان كشف سرائر المنافقين
قال الله: (وَمِنْهُمْ) أي: من المنافقين، (مَنْ يَلْمِزُكَ) أي: يعيبك وينتقصك، فحين فسد القلب فسد اللسان، وفسد التعبير، قال عثمان رضي الله تعالى عنه: ما أسر أحد سريرة إلا وأظهرها الله على قسمات وجهه أو فلتات لسانه.
جعلنا الله وإياكم ممن يسر خيراً.
فهذا الرجل شهد مع النبي ﷺ معركة حنين، ولكنه كان يسر الشر في قلبه، فلما جاء النبي ﷺ وهو أمين في السماء، واستأمنه الله جل وعلا على أعظم منزل وهو القرآن، وأخذ عليه الصلاة والسلام يقسم الغنائم بحسب المصلحة العليا للإسلام؛ أتى هذا من بين الناس ليقول له: يا محمد! اعدل.
فقال عليه الصلاة والسلام: (ويحك! من يعدل؟! إن لم أعدل).
فهذا الرجل أسر السريرة المريرة في قلبه، وهي سريرة النفاق، وأظهر ما يخفيه، وكان يظهر خلاف ما يبطنه، فلما جاء هذا الموقف لم يصبر، فأظهر السريرة التي في قلبه، وأخذ يعترض على حكم وقسمة نبينا ﷺ الذي ائتمنه الرب تبارك وتعالى من فوق سبع سماوات، والله جل وعلا يقول: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤].
فالله تبارك وتعالى في هذه الآية يقول لنبيه: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ [التوبة: ٥٨] أي: يعيبك ﴿فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ [التوبة: ٥٨].
ومن دلالة قبول الإنسان للحق، أو إرادته للهوى أن ينظر في تصرفه حال المنع والعطاء، فمن الناس من يأتي ليسألك وقد بيت الإجابة من قبل، فإن وافقت إجابتك له الإجابة التي يريدها خرج يمدحك بين الناس ويرفعك على أقوام تعلم أنت أنك لا تصل إلى علمهم، وإن قلت له إجابة تخالف هواه وتخالف مراده خرج يقدح فيك ويقول فيك المعايب، ويظهر ما فيك من النقائص؛ لأن إجابتك لم توافق هواه، فهو لا يريد الحق، بل يريد أن يجبرك على أن يوافق هواك أنت هواه هو.
فالله تعالى يقول عن أمثال هؤلاء: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ [التوبة: ٥٨]، فهم لا يريدون نصرة دين، ولا إعلاء كلمة الإسلام، ولا إقامة حق، وإنما يريدون أن يتبعوا أهواءهم، فإن أعطيتهم أثنوا عليك، وقالوا: محمد كذا ومحمد كذا يمدحونه، وإن لم تعطهم أطلقوا لألسنتهم العنان في أن ينتقصوك؛ لأنهم لا يريدون ميزان الحق، وإنما يريدون ما يوافق أهواءهم، وهذه إحدى خصال النفاق أعاذنا الله وإياكم منها.
ونحن هنا نتكلم عن قوم منافقين حقاً، وليس ذلك أمراً نطبقه على غيرهم من المسلمين، فمعاذ الله، بل نتكلم عن قوم وجدوا بأسمائهم وأعيانهم تكلم الله جل وعلا عنهم، فهؤلاء ليسوا مثلاً يضربه الله للناس، وإنما هم قوم حصل منهم هذا الأمر، ووقعت منهم تلك الأفعال، قال تعالى عنهم: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ [التوبة: ٥٨].