مراحل جمع القرآن الكريم
لقد مر جمع القرآن بثلاث مراحل، فجمع باعتبار حفظه، وجمع باعتبار كتابته، وجمع باعتبار تسجيل صوت قارئه، وكلها جعلها الله أسباباً لحفظ كتابه.
أما الأول فإن النبي ﷺ كان القرآن في قلبه يحفظه، ويقرأ به آناء الليل وأطراف النهار، ويصلي به الليل، ويقرأه على أصحابه، ويتلوه على المنبر، ويشجع أصحابه على حفظه عبر طرق متعددة، فيعطي الراية لمن هو حافظ للقرآن، وفي القبور كان يقدم من هو أكثر قرآناً، وفي صدور المحاريب يقدم اقرأهم لكتاب الله، ويزوج أحياناً بمهر القرآن، وهذه كلها طرق اتبعها النبي عليه الصلاة والسلام ليحفظ الناس كلام ربهم جل وعلا، فاستجاب الصحابة في ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، فظهر فيهم قراء يتقنون القرآن، كمثل أبي بن كعب وتميم بن أوس الداري وزيد بن ثابت، والخلفاء الأربعة وغيرهم من الأئمة وأفاضل الصحابة.
وهذا التشجيع كان النبي ﷺ يعلنه، فقد قال في حق أبي موسى الأشعري: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) يشجعه على قراءة القرآن، ومر على سالم مولى أبي حذيفة وهو يقرأ القرآن فقال: (الحمد الله الذي جعل في أمتي مثلك) أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح، وأمر عليه الصلاة والسلام عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه القرآن فقال: كيف اقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! قال: (إني أحب أن أسمعه من غيري) فقرأ عبد الله بن مسعود بعضاً من سورة النساء على نبينا صلى الله عليه وسلم.
وكان عليه السلام يقول: (إني لأعرف منازل الأشعرين -أهل اليمن- من قراءتهم للقرآن في الليل، وإن كنت لا أعرف أين نزلوا في النهار)؛ لأنهم كانوا يقرءون القرآن بصوت عال.
فهذا كله جعل الصحابة يحفظون القرآن والحفظ للقرآن جاء في وصف الصحابة في الكتب المتقدمة في التوراة والإنجيل، حيث جاء فيها أن أناجيلهم في صدورهم، وقد قال الله جل وعلا: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت: ٤٩].
وكان القرآن يكتب، ولكن مات النبي ﷺ والقرآن مكتوب مفرقاً، بمعنى أنه لا يوجد لوح مكتوب فيه القرآن كله.
الجمع الثاني: جمعه كتابتة، وهذا تولاه الصديق رضي الله تعالى عنه بمشورة من عمر رضي الله عنهما، وكلف به زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقال: لو كلفاني أن أنقل جبلاً لكان أهون علي مما حملاني إياه، فأخذ زيد يسأل الناس ويأتي بشهيدين على كل آية حتى جمع القرآن الذي هو بين دفة المصحف اليوم، وسمي مصحفاً في عهد أبي بكر، وكلمة (مصحف) يجوز في ميمها التثليث، فيقال: مُصحف ومِصحف ومَصحف والضم أشهر.
وأما الجمع الثالث فهو الجمع التسجيلي وهو تسجيل الصوت، وهذا الجمع لم يكن في القرون المفضلة ولم يكن فيما بعدها لعدم وجود آله تسجيل، وإنما تبنته جمعية خيرية في مصر عام ١٣٧٩ من الهجرة في القاهرة بمشورة من رجل فوافقه علماء عصره، ولم تكن آلات التسجيل كما هي في عصرنا هذا، وكان أول رجل سجل له القرآن الشيخ محمود خليل الحصري رحمه الله تعالى، فسجل القرآن بصوته.
ثم تبنت بعد ذلك عدة مؤسسات علمية جمع القرآن صوتياً تختلف في قوتها، وآخرها مجمع الملك فهد المعروف في المدينة المنورة، وقد سُجِّل فيه القرآن بصوت الشيخ علي الحذيفي والشيخ إبراهيم الأخضر فأصبح القرآن مجموعاً بثلاث طرق، فجمع في صدور من يحفظونه، وجمع كتابة، وجمع تسجيلاً، وهذا تحقيق لقول الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
ويروى أن رجلاً يهودياً حسن السمت جميل الخط دخل على المأمون الخليفة العباسي، فعرف أنه يهودي، فقال له المأمون: أسلم وسأوليك كذا وكذا؛ لأنه كان معجباً به، فرفض أن يسلم، ثم خرج من عند المأمون فغاب عاماً ثم عاد إلى المأمون وقد أسلم، قال له المأمون: ألست صاحبنا بالأمس؟ فقال: بلى، فقال: لماذا أسلمت؟ قال: يا أمير المؤمنين! إنني وقد أعطيت عقلاً وحسن خط، فعمدت إلى التوراة فكتبتها فزدت فيها ونقصت، ثم أتيت إلى علماء اليهود وعرضت عليهم ما كتبت فاشتروه مني، ثم عمدت إلى الإنجيل فكتبته بخطي، فزدت فيه ونقصت من عندي، فعمدت إلى ديار الرهبان فاشتروه مني، ثم عمدت إلى القرآن فكتبته فزدت فيه ونقصت، فذهبت إلى الوراقين -وليس إلى العلماء- في الدكاكين فأعطيتهم إياه فتصفحوه فوجدوا فيه زيادة ونقصاناً فرموه ولم يشتروه مني، فعلمت أن هذا القرآن محفوظ، فأسلمت بهذا السبب.
فحج يحيى بن أكثم وزير المأمون فالتقى بـ سفيان بن عيينة المحدث الحجازي المعروف، ثم حكى له الخبر، فقال له: إن يهودياً جاء إلى أمير المؤمنين وكان من شأنه كذا وكذا، فقال سفيان -وهو الواثق من علمه-: هذه القصة مصداقها في كلام الله.
فقال له: أين؟ قال: في قول الله جل وعلا: ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ﴾ [المائدة: ٤٤]، فأوكل الله الحفظ إليهم فضيعوه، وقال عن كتابنا: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] فلم نضيعه.
هذه مجمل ما يمكن بيانه حول قول الله جل وعلا: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].