تفسير قوله تعالى: (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون)
ثم قال الله جلا وعلا عنهم في بعض آيات هذه السورة: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: ٦] والجزء الأول من الآية يشعر بأنهم آمنوا واعترفوا بالنبوة، ولكن الجزء الثاني: ﴿إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: ٦] يذهب هذا، والمعنى أنهم يقولون من باب السخرية والاستهزاء والتهكم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: ٦] وقد ورد في بعض كتب السير أنهم كانوا من سخريتهم بالنبي ﷺ يأتي أحدهم فيربت على كتف النبي ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ﴾ [الحجر: ٦] فيلتفت ﷺ هاشاً باشاً يظن أنه آمن فيقول له: ﴿إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: ٦]، وهذا منتهى العنت والصدود، ومنتهى الصبر منه صلوات الله وسلامه عليه، وبعض بيان لما كان لقاه عليه الصلاة والسلام من ألم ومشقة عظيمة في سبيل الدعوة إلى ربه.
وهذا الأسلوب القرشي لم يكن القرشيون فيه بأول الناس، فهو أسلوب ابتدعته الأمم من قبل، قال الله جل وعلا عن فرعون: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: ٢٧] ففرعون يعترف في أول الكلام أن موسى رسول، حيث قال: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: ٢٧]، وقبل فرعون قاله قوم شعيب لشعيب، كما قال الله جل وعلا حكاية عنهم: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ [هود: ٨٧] فكلمة (إنك لأنت الحليم الرشيد) قيلت في معرض السخرية والاستهزاء والتنقيص لبنبي الله شعيب.
فالقرشيون ساروا على نهج الأسلاف من أهل الكفر في الأمم السابقة.


الصفحة التالية
Icon