تفسير قوله تعالى: (ثم دنا فتدلى)
قال الله جل وعلا: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [النجم: ٥ - ٩] أظهر الأقوال -والله أعلم- أن المقصود بها: رؤية النبي ﷺ لجبريل في أيام الوحي في مكة عند جبل حراء، فيصبح المعنى ﴿ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى﴾ [النجم: ٦ - ٧] أي: استوى جبريل في السماء بالأفق الأعلى فسد ما بين المشرق والمغرب، فرآه النبي ﷺ على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح، قد سد ما بين المشرق والمغرب.
ثم إن جبريل (دنا فتدلى) وهو أسلوب عربي مقلوب تقوله العرب في كلامها؛ لأن التدلي يكون قبل الدنو، وأصل الكلام على لغة العرب تدلى فدنا، لكن هذا أسلوب تستخدمه العرب في كلامها، يقول الرجل: أحسن إلي فزارني، ويقولون: زارني فأحسن إلي، وكلا المعنيين واحد، وتقول: فلان أساء إلي فشتمني، وتقول: شتمني فأساء إلي، فقول الرب تبارك وتعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى﴾ [النجم: ٨] معناها الحرفي: تدلى جبريل فدنا من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقلنا: إن من قواعد العلم أن القرآن لا يعرف بالمعاجم، وإنما يعرف أول الأمر بأساليب العرب في كلامها، وقلنا: إن العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى صاحب أضواء البيان لما قدم إلى هذه البلاد من بلاد شنقيط مر على السودان، وكان الإخوة في السودان يسمعون عن علمه، وهو رجل كان يقال له: أمير المؤمنين في المعقول والمنقول، فمر على السودان في طريقه إلى الحجاز للحج قبل أن يمن الله عليه بالإقامة في هذه البلاد، فأقاموا له عشاء ثم سألوه أسئلة متعددة ومنها سألوه: ما آخر كتاب قرأت؟ فقال لهم: آخر كتاب قرأته ديوان عمر بن أبي ربيعة، فتعجب الناس؛ لأن عمر بن أبي ربيعة شاعر غزل فكيف لإمام في تفسير القرآن يسأل عن آخر كتاب قرأ فيقول: كتاب شعر في الغزل، فلما رأى أنه قد أصابهم الحنق قال لهم رحمه الله: أقرؤه لأعرف به أسلوب العرب فأفهم بأسلوب العرب كلام ربي؛ لأن عمر بن أبي ربيعة شاعر عاش في صدر الإسلام في آخر عهد الخلفاء الراشدين وعصر بني أمية، فهو ممن يستشهد بقوله عندما يفسر القرآن فمن يعرف أساليب العرب في كلامها سيعرف أسلوب القرآن؛ لأن القرآن نزل بأسلوب العرب.
هذا ما أردنا التنبيه عليه في قول الله جل وعلا: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى﴾ [النجم: ٨]، قلنا: إن الذي دنا وتدلى هو جبريل، فلما دنا وتدلى قرب من النبي ﷺ ليعطيه الوحي، ثم كنى الله عن قرب جبريل من نبينا ﷺ بقوله: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [النجم: ٩]، (أو) هذه تحتمل معنيين: تحتمل أن تبقى على أصلها بمعنى أو، وتحتمل أن تكون للضرب -أي: النقل- فيصبح المعنى: بل أدنى، وأياً كان الأمر فإن المقصود: حكاية قرب جبريل من نبينا ﷺ وهو يعلمه الوحي، وكون جبريل يعلم النبي ﷺ الوحي هذا أمر في الأصل تفزع له القلوب؛ لأن جبريل ملك ومحمد ﷺ بشر، لذلك قال الله بعدها: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم: ١٠] أي: أوحى الله إلى نبيه بواسطة جبريل ما أوحى، قال الله بعدها: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [النجم: ١١] معنى ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [النجم: ١١] على أظهر الأقوال: أن الإنسان إذا رأى شيئاً خارقاً للعادة قد تراه عيناه لكن يكذبه بقلبه، فترى الإنسان جبلة يصيبه اضطراب، ولا يصدق ما يراه، لكن الله أراد لهذا النبي أن يكون آخر الأنبياء وخاتم الرسل، فثبت قلبه ﷺ ولم يتزعزع، فاتفقا وتواطأ البصر والقلب على تلقي الوحي من الله عن طريق جبريل.
هذا الذي يظهر لنا -والله أعلم- في تفسير الآيات السابقة.
ولبعض العلماء رحمهم الله تفسيراً آخر قالوا: إن الذي دنا وتدلى هو الجبار جل جلاله، وقالوا: إن هذا حصل في رحلة المعراج، لكن ذكر أن هذا لا يستقيم معنا إذا فسرنا الآيات جملة، والقول الذي اخترناه هو ما اختاره الإمام ابن سعدي رحمة الله تعالى عليه في تفسيره.