بيان معنى قوله تعالى (ويخلق ما لا تعلمون)
نعود إلى قول الله تعالى: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٨]، لقد كان المفسرون الأوائل يتكلفون في تفسير هذه الجملة؛ لأنه لم يخطر في خلدهم يوماً ما نحن فيه من وسائل النقل، ولكن الله جل وعلا يعلم ما هو كائن وما سيكون، وحتى لا يفتن الناس آنذاك بشيء لا يعرفونه لم يقل لهم جل وعلا: إن الحديد ذات يوم سينقل الناس، وإنما قال جل وعلا تمهيداً لمن يأتي بعدهم: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾.
وأذكر أنه أول ما ظهرت السيارات قبل توحيد المملكة أو في أول توحيدها سافر اثنان من ديار نجد إلى الهند، فرأيا السيارات لأول مرة قبل أن يعرف الناس السيارات في بلادنا وقبل أن تأتي الصور الفوتوغرافية للسيارات، والناس كانوا هنا بدواً رحلاً، فرأيا السيارات عياناً تمشي فركبا فيها ثم رجعا، فصنعت لهما قبيلتهما طعاماً احتفاء بهما، وكان الناس إذا قدم إنسان من سفر يتحلقون حوله ليخبرهم بما رأى، وكان أحدهما كهلاً والآخر شاباً فقال الشاب: رأينا الحديد يمشي.
فنظر الناس بعضهم إلى بعض، فحسب شيوخ القبائل أنه يضحك عليهم، فنظروا إلى الكهل فقالوا: هل صحيح أنكما رأيتما الحديد يمشي؟ فقال: كذب، فما رأينا -والله- حديداً يمشي، وأنكر وقد ركب مع ابن أخيه، فقاموا إلى العقالات والنعال وطردوه قائلين: أتكذب على الرجال وتضحك على لحاهم؟! وعندما خرج توارى ينتظر عمه ليخرج؛ لأنه يعرف أن عمه رأى ذلك، فلما خرج قال له: أسألك بالله أما ركبنا السيارة؟! وجعل يحلفه، فصدقه، فقال: لماذا أنكرت؟ فقال: لو قلت: نعم لضربوني وطردوني كما ضربوك وطردوك.
فالناس يخاطبون على قدر عقولهم، فلابد من أرض ممهدة قبل أن تلقي خطابك.
فالمطر ينزل فتنبت الزرع أرض وأخرى غير قابلة لأن تنبت زرعاً، والقرآن قال الله جل وعلا عنه: ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فصلت: ٤٤] أي: على الكفار، وهو القرآن، لأن قلب الكافر غير قلب المؤمن.
وكذلك كلامك لا ينبغي أن تقوله لكل أحد، فلابد من أن تمهد للناس أمراً معظماً قبل أن تلقى إليهم كلامك، والله يقول: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٦]؛ لأنه إذا كان خائفاً فلن يسمع كلام الله.
فالله يقول لنبيه: (فأجره) أي: أعطه أماناً، فإذا أعطيته الأمان فلن يخشى على روحه، فسيقبل عليك بعقله وقلبه، فالله جل وعلا قال لنبيه: ﴿فَأَجِرْهُ﴾ [التوبة: ٦] لسبب عظيم، هو ﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٦].
فالمقصود عموماً من الآية في قوله تعالى: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٨] تربية الله جل وعلا للناس على أن الخطاب لا يكون واحداً لكل أحد، وإنما يتنوع بحسب الجيل أو القلب الذي تخاطبه.


الصفحة التالية
Icon