البشرى للمؤمن في الدنيا والآخرة
وَفِي الآخِرَةِ)) [يونس: ٦٤] أي: أن المؤمن لا يموت حتى يرى مقعده من الجنة، وكذلك يبشر في القبر، فيأتيه عمله الصالحة في صورة شاب حسن الوجه، ويقول له: (من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح)، فهذه كلها من المبشرات، حتى يدخل المؤمن الجنة فيجد الراحة التامة الكبرى التي وعدها الله جل وعلا عباده، أدخلنا وإياكم الجنة.
﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ [يونس: ٦٤] وحتى لا ترتاب القلوب قال الله بعدها: ﴿لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ [يونس: ٦٤] وهي هذه أوامر الله وقضاؤه وقدره، ولا يمكن لأحد أن يغيرها ولا أن يبدلها، ولا أن يجري في الكون أمراً لم يكتب الله منذ الأجل أن يقع، ﴿لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [يونس: ٦٤] لمن تمسك بالإيمان، والعمل الصالح، واجتهد في أن يقترب من الله، واجتهد في أن يبتعد عن السيئات، وصاحب عمله الاستغفار، والخوف من الله، والطمع في رحمته، ووصل إلى الجنة، فهذا إجمالاً وبلا شك: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [يونس: ٦٤].
ثم قال الله لنبيه: ﴿وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾ [يونس: ٦٥] ويجب وجوباً أن تقف؛ لأنه لا يستقيم المعنى أن تقرأ: ﴿وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [يونس: ٦٥] بدون وقف، فهذا كفر.
﴿وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾ [يونس: ٦٥] أي قول القرشيين: إنك كافر، وإنك ساحر وإنك كاهن، وإنك مجنون، فهذا لا يحزنك، ثم تقف؛ لأن الجملة تمت، ثم تقرأ: ﴿إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [يونس: ٦٥] فليس قولهم: ﴿إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [يونس: ٦٥] يجب ألا يحزنك، فهذا يفرح فـ (لا) هنا ناهية، ويحزنك فعل مضارع مجزوم بلا، ثم تقف هنا، أي: قول ما سلف في القرآن من اتهام القرشيين لنبينا عليه الصلاة والسلام بعدة أمور، ثم تقول: لماذا لا يحزنك؟ إن العزة لله جميعاً، ولا يوجد عاقل لا يطلب العزة، لكن الله قال: إن العزة كلها أولها وآخرها، مبدأها ومنتهاها ملك لله، وقد مرت معنا هذه اللام، وهي لام الملك، في كلمة للفقراء، ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ﴾ [التوبة: ٦٠].
لكن الفرق أن ملك بني آدم لما تحت يده ملك صوري، وملك الله جل وعلا ملك حقيقي، ولذلك قال الله جل وعلا: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ﴾ [الفرقان: ٢٦]، فيفنى الملك الصوري، ولا يبقى إلا الملك الحقيقي، ولذلك حصره الله جل وعلا في يوم القيامة، ومنه قول الله في آخر الانفطار: ﴿وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: ١٩]؛ لأن الأمر الصوري ينتفي فيبقى الأمر الحقيقي، والأمر الحقيقي ليس إلا لله جل وعلا وحده.
﴿وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [يونس: ٦٥] أي: هو السميع لأقوالهم، العليم بأعمالهم، وما دام جل وعلا يسمع أقوالهم، ويعلم أعمالهم، فهو جل وعلا القادر على جمعهم، والقادر على حسابهم، وكل هذا سيكون لا محالة كما أخبر الله ورسوله صلى الله وعليه وسلم عنه.
ويفهم من الآية عموماً: أن المؤمن ينبغي عليه وهو يسير في طريقه إلى الله: ألا يصل به الحزن إلى اليأس، وإن كان الحزن لابد منه، فالرسول ﷺ يقول: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن) لكن لا يصل بك الحزن إلى اليأس الكامل والقنوط من رحمة الله تبارك وتعالى.
وأما أن يعتريك حزن، وتعتريك دمعة، ويعتريك أسف، فهذا لا مفر منه، لكن لا يعني ذلك التشكيك في قدرة الله، أو الاعتراض على قدره، فقد بكى من هو خير منا، وحزن من هو خير منا، لكن الحزن والدمع والشكوى تبث إلى الله، كما قال الله عن الصديق يعقوب: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي﴾ [يوسف: ٨٦].
فأثبت له حزناً، لكن هذا الحزن أسنده إلى ربه جل وعلا، وشكاه وبثه إلى ربه جل وعلا، ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: ٨٦].
وأما الحزن الذي نفاه الله جل وعلا عنه هنا فهو الحزن الذي يصيب الإنسان بالقعود، والشلل التام في حياته، فهذا منفي عن أهل ولاية الله؛ لأن ثقتهم في الرب تبارك وتعالى يعلمون بها أن الله سيجد لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كرب تنفيساً، وأن الله جل وعلا قادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وثقتهم بربهم تبارك وتعالى تجعلهم مطمئني البال، وعلى يقين بأن الله سيجد لهم المنجى والمخرج، ولو زاد عليهم البلاء فإن هذا أكثر عظمة لأجورهم، وتكفيراً لخطاياهم، فهم يتقلبون ما بين أجر يعطونه، أو سيئة يكفر بها عنهم.
ثم ذكر الله في هذه السورة ثلاثة من الأنبياء: ذكر نوحاً، وموسى، ويونس.
وقد مر معنا تفصيل أكثر من هذا في الأعراف، وفي النساء، وفي غيرها مما ورد فيه ذكر الأنبياء، وقلت: إنني لا أكرر ما وقفت عنده، لكنني سأقف هنا عند قضية غرق فرعون في آخر أيام موسى في أرض مصر؛ حتى تعلم البلاغة العظيمة لكلام الرب جل وعلا.
قال الله: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ﴾ [يونس: ٧١] وذكر فيها فضل نبي الله نوح، وقد مر معنا ذكر نوح في أكثر من مرة، ثم ذكر الله جل وعلا أنه أرسل رسلاً ولم يسمهم في هذه السورة إجمالاً، ثم قال: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ [يونس: ٧٥]، فذكر موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، وقلنا: إن موسى أخ شقيق لهارون، وأن هارون أكبر من موسى، وأن هارون ولد في العام الذي لا قتل فيه، وولد موسى في العام الذي فيه قتل، لكن الله جل وعلا لحكمة أراد جعل موسى خيراً من هارون.
وذكر الله جل وعلا قضية السحر، وهذه تكلمنا عنها تفصيلاً، ونصل إلى أنه بعد أن انتصر موسى على سحرة فرعون وآمن السحرة مكث موسى في مصر ولم يخرج منها؛ لأنك إذا أردت أن تفسر القرآن لابد أن تجمع بعضه إلى بعض، وفي هذه الفترة جاءت الآيات الباقية، قال الله في الأعراف: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ﴾ [الأعراف: ١٣٣]، والآيات شيء خرج عن المألوف، والآن يوجد جراد، ويوجد قمل ويوجد ضفادع، ولا تسمى آيات؛ لأنها تعيش حياة طبيعية، لكن قول الله: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ﴾ [الأعراف: ١٣٣] يدل على أن الآيات شيء غير مألوف وغير معهود.
وقول الله جل وعلا: ﴿مُفَصَّلاتٍ﴾ [الأعراف: ١٣٣] يدل على أنها لم تكن مجتمعة، ولم تكن جملة واحدة، فآية تنتهي وتأتي آية ثانية، وهذا يدل عموماً على أن موسى وقومه مكثوا فترة طويلة في أرض مصر قبل أن يخرجوا منها، قال الله في يونس: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٨٧].