بيان ضعف الأنبياء ممن دونهم في علم الغيب
وقوله تعالى: ﴿وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ [الأنعام: ٥٠].
يخبر نبينا ﷺ بأمر ربه كفار قريش بأنه لا يعلم الغيب، والغيب: ضد الشهادة، فيخبر صلوات الله وسلامه عليه بأن ربه يأمره بأن يبلغ الناس بأنه لا يعلم الغيب، فإذا بان ضعف الرسول في علم الغيب ظهر كمال الله في العلم، وهذا أمر هو المقصود من السورة كلها، أي: أن يظهر الله للناس ضعفهم وعجزهم حتى يظهر لهم كمال خالقهم وعظمته جل وعلا، وأنه منزه من كل عيب ونقص، ولذلك قال الله لما ذكر خلق السماوات والأرض: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: ٣٨].
أي لم يمسه جل وعلا إعياء؛ لأن ذاته غير ذات المخلوقين، فصفاته غير صفات المخلوقين.
وهذا الأمر الذي قرره النبي ﷺ وقع حالا ومعنى عليه، وعلى الملائكة وعلى الأنبياء والرسل من قبله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فالملائكة بين يدي ربهم لما علم الله آدم الأسماء وقال: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: ٣١ - ٣٢].
وخليل الله إبراهيم -وهو أبو الأنبياء، وثاني الرسل من أولي العزم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- يأتيه الملائكة في صورة ضيوف، فيذهب عجلا إلى بيته، فيأخذ العجل ويذبحه ويشويه ويقدمه، كل هذا وهو لا يعلم أن الضيوف ملائكة لا يأكلون الطعام.
فلو كان يعلم لما فعل هذا كله، ولكن ليبين الله لك وأنت تقرأ كتابه ضعف المخلوقين أيا كانوا وعظمة الرب جل جلاله وحده.
ونبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام كان ابنه يوسف في أرض مصر عزيزا على كرسي الوزارة يأمر وينهى ويأتيه الناس من كل مكان، ويعقوب في أرض كنعان في بادية الشام قد ابيضت عيناه من الحزن على فقد ولده، وهو نبي يوحى إليه، ومع ذلك كان عليه السلام يجهل أن ابنه في مقام عزيز ومكان رفيع، ولو كان يعلم لما دمعت عيناه، لكنه شيء من الغيب الذي أخفاه الله جل وعلا عن هذا النبي الكريم.
ورسولنا ﷺ كان في المدينة وحوله من يكيد له الكيد، ويحيق به الدوائر، وربه يقول له: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ [التوبة: ١٠١].
وسليمان يعطى الملك، وسخرت له الريح والجن والشياطين، تأتمر بأمره وتذعن لخبره، وتنفذ ما يطلب وتفعل ما يأمرها به، ومع ذلك كله يخفى عليه أن بلقيس كانت تعبد الشمس، ثم يأتي طائر لا ينطق ليقول له: ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: ٢٢].
فهذا ما جرى لأنبياء الله ورسله وأخذنا منهم بعض الأمثلة، وما يقال عنا من باب أولى، وهذا يدل على أن علم الغيب أمر اختص الله جل وعلا به وحده، وسيأتي الحديث عن مفاتيحه.