امرؤ قومًا في زمان هم فيه رؤساء صناعة الخطب والبلاغة، وقيلِ الشعرِ والفصَاحة، والسجع والكهانة، على كل خطيب منهم وبليغ (١) وشاعر منهم وفصيح، وكلّ ذي سجع وكهانة -فسفَّه أحلامهم، وقصَّر بعقولهم (٢) وتبرأ من دينهم، ودعا جميعهم إلى اتباعه والقبول منه والتصديق به، والإقرار بأنه رسولٌ إليهم من ربهم. وأخبرهم أن دلالته على صدْق مقالته، وحجَّتَه على حقيقة نبوّته- ما أتاهم به من البيان، والحكمة والفرقان، بلسان مثل ألسنتهم، ومنطق موافقةٍ معانيه معانيَ منطقهم. ثم أنبأ جميعهم أنهم عن أن يأتوا بمثل بعضه عَجَزَة، ومن القدرة عليه نقَصَةٌ. فأقرّ جميعُهم بالعجز، وأذعنوا له بالتصديق، وشهدوا على أنفسهم بالنقص. إلا من تجاهل منهم وتعامى، واستكبر وتعاشى، فحاول تكلُّف ما قد علم أنه عنه عاجز، ورام ما قد تيقن أنه عليه غير قادر. فأبدى من ضعف عقله ما كان مستترًا، ومن عِيّ لسانه ما كان مصُونًا، فأتى بما لا يعجِزُ عنه الضعيف الأخرق، والجاهل الأحمق، فقال: "والطاحنات طحنًا، والعاجنات عجنًا، فالخابزات خبزًا، والثاردات ثَرْدًا، واللاقمات لَقْمًا"! (٣) ونحو ذلك من الحماقات المشبهةِ دعواه الكاذبة.
فإذْ كان تفاضُلُ مراتب البيان، وتبايُنُ منازل درجات الكلام، بما وصفنا قبل -وكان الله تعالى ذكرُه وتقدست أسماؤه، أحكمَ الحكماء، وأحلمَ الحلماء،

(١) في المطبوعة:
"كل خطيب.." بحذف "على"، وفي المخطوطة "على خطيب.." بحذف "كل". وكلتاهما لا يستقيم بها كلام. والصواب ما أثبتناه. وأراد الطبري أنهم رؤساء صناعة الخطب والبلاغة على كل خطيب منهم وبليغ". يعني أن الذين تحداهم رسول الله ﷺ بالقرآن من العرب، كانوا رؤساء البيان والبلاغة على كل مبين وبليغ من سائر العرب.
(٢) سفه أحلامهم: نسبهم إلى السفه، وهو خفة الحلم واضطراب الرأي وضعفه، وهو باب من الجهل. وفي المطبوعة: "وقصر معقولهم" والمعقول مصدر كالعقل، يقال: ما لفلان معقول، أي ما له عقل. وكأنه أراد بقوله "قصر": نسبهم إلى قصر العقل وقلته. وأما قوله "قصر بعقولهم"، فكأنه ضمن "قصر" معنى استخف بها، فعداه بالباء، أي عاب عقولهم واستقصرها واستخف بها. وأنا في شك من صواب هذا الحرف.
(٣) من هذيان مسيلمة الكذاب لعنه الله. انظر تاريخ الطبري ٣: ٢٤٥ وسواه.


الصفحة التالية
Icon