أبو ياسر بن أخْطب برسول الله ﷺ وهو يتلو فاتحة سورة البقرة (ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ)، فأتى أخَاه حُيَيّ بنَ أخطب من يَهودَ فقال: تعلمون والله (١)، لقد سمعتُ محمدًا يتلو فيما أنزل الله عز وجل عليه (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ) فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم! قال: فمشى حُيَيُّ بن أخطب في أولئك النَّفر من يهودَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، ألمْ يذكُرْ لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك"ألم ذلك الكتاب"؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى! فقالوا: أجاءك بهذا جبريلُ من عند الله؟ (٢) قال: نعم! قالوا: لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء، ما نعلمه بيَّن لنبيّ منهم، ما مدَّة ملكه وما أكْل أمَّته غيرَك! (٣) فقال: حُييّ بن أخطب، وأقبلَ على من كان معه فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدَى وسبعون سنة. أفتدخلون في دين نَبيّ إنما مدّة مُلكه وأكْل أمّته إحدى وسبعون سنة (٤) ؟ قال: ثم أقبلَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، هل مع هذا غيرُه؟ قال: نعم! قال: ماذا؟ قال: (ألمص). قال: هذه أثقلُ وأطولُ، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه مائة وإحدى وستون سنة. هل مَع هذا يا محمَّد غيره؟ قال: نعم! قال: ماذا؟ قال: (ألر). قال: هذه والله أثقلُ وأطولُ. الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة، فقال: هل مع هذا غيرُه يا محمد؟ قال: نعم، (ألمر)، قال: فهذه والله أثقل وأطولُ، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. ثم قال: لقد لُبِّس علينا أمرك يا محمَّد، حتى ما ندري أقليلا أعطيتَ أم كثيرًا؟ ثم قاموا عنه. فقال أبو ياسر لأخيه حُيي بن أخطب، ولمن معه من الأحبار: ما يُدْريكم لعلَّه قد جُمع هذا كله لمحمد، إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومائة، ومائتان وإحدى وثلاثون، ومائتان وإحدى وسبعون، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون! فقالوا: لقد تشابه علينا أمره! ويزعمون أنّ هؤلاء الآيات نزلت فيهم: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (٥).
قالوا: فقد صرّح هذا الخبر بصحة ما قلنا في ذلك من التأويل، وفساد ما قاله مخالفونا فيه.
والصواب من القول عندي في تأويل مفاتِح السور، التي هي حروف المعجم: أنّ الله جلّ ثناؤه جعلَها حروفًا مقطَّعة ولم يصِل بعضَها ببعض -فيجعلها كسائر الكلام المتّصِل الحروف - لأنه عز ذكره أراد بلفظِه الدلالةَ بكل حرف منه على معان كثيرة، لا على معنى واحد، كما قال الربيعُ بن أنس. وإن كان الربيع قد اقتصَر به على معانٍ ثلاثةٍ، دون ما زاد عليها.
والصوابُ في تأويل ذلك عندي: أنّ كلّ حرف منه يحوي ما قاله الربيع، وما قاله سائر المفسرين غيرُه فيه - سوى ما ذكرتُ من القول عَمَّن ذكرت عنه من أهل العربية: أنهّ كان يوجِّه تأويلَ ذلك إلى أنّه حروف هجاء، استُغني

(١) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "تعلمون"، ونص محمد بن إسحاق، سيرة ابن هشام ٢: ١٩٤. "تعلموا" بتشديد اللام، أي اعلموا. وهي كثيرة الورود في سيرة ابن هشام وغيره.
(٢) الذي في سيرة ابن هشام: "أجاءك بها جبريل من عند الله".
(٣) في المطبوعة، وفي سائر الكتب التي خرجت الخبر عن الطبري: "ما أجل".
(٤) في المطبوعة"قال، فقال لهم: أتدخلون... " و"أجل أمته" والتصحيح من المخطوطة وابن هشام. والأكل (بضم فسكون) : الرزق. يقال: هو عظيم الأكل في الدنيا، أي واسع الرزق، وهو الحظ من الدنيا، كأنه يؤكل. ويراد به: مدة العمر التي يعيشها الناس في الدنيا يأكلون مما رزقهم الله. فيقال للميت: انقطع أكله، بمعنى: انقضى عمره.
(٥) الحديث ٢٤٦- هذا حديث ضعيف الإسناد، رواه محمد بن إسحاق بهذا الإسناد الضعيف، وبأسانيد أخر ضعاف:
فرواه في السيرة، التي هذبها عبد الملك بن هشام النحوي البصري، ورواها عن زياد بن عبد الله البكائي عن ابن إسحاق، وعرفت واشتهرت بأنها"سيرة ابن هشام". وابن هشام هذا: ثقة، وثقه ابن يونس وغيره، مات سنة ٢١٨. وشيخه زياد البكائي: ثقة، من شيوخ أحمد. و"البكائي"، بفتح الباء وتشديد الكاف: نسبة إلى"البكاء"، وهو: ربيعة بن عامر بن صعصعة.
فقال ابن هشام ٢: ١٩٤ - ١٩٥ (٢: ٣٥ - ٣٧ من الروض الأنف شرح السيرة) : قال ابن إسحاق: وكان ممن نزل فيه القرآن بخاصة من الأحبار وكفار يهود، الذين كانوا يسألونه ويتعنتونه، ليلبسوا الحق بالباطل، فيما ذكر لي عن عبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله بن رئاب: أن أبا ياسر بن أخطب مر برسول الله صلى الله عليه وسلم... ".
فهذا إسناد ضعيف، جهله ابن إسحاق، فجاء به معلقًا بصيغة التمريض. وفيه أن الرواية عن ابن عباس وجابر، معًا.
ورواه البخاري في التاريخ الكبير، في ترجمة"جابر بن عبد الله بن رئاب" ١/٢/ ٢٠٧ - ٢٠٨ بثلاثة أسانيد، بعادته الدقيقة المتقنة، في الإيجاز والإشارة إلى الأسانيد وعللها:
وأولها: "حدثني عمرو بن زرارة، قال: حدثنا زياد: قال ابن إسحاق: حدثني مولى لزيد بن ثابت عن سعيد بن جبير وعكرمة، عن عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله: أن أبا ياسر بن أخطب مر بالنبي ﷺ وهو يتلو (ألم. ذلك الكتاب) ".
فهذه هي إشارة البخاري إلى الإسناد الأول من الثلاثة الأسانيد.
و"زياد" في هذا الإسناد: هو البكائي. فهذا إسناد صحيح إلى ابن إسحاق. ولكن فيه الضعف بجهالة أحد رواته"مولى لزيد بن ثابت". وهو كإسناد السيرة: عن ابن عباس وجابر معًا. ولعل عمرو ابن زرارة -شيخ البخاري- روى السيرة عن البكائي، كما رواها عنه ابن هشام.
وثانيها: "وقال سلمة: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد، عن ابن عباس: (ألم. ذلك الكتاب) - بطوله".
وهذه إشارة البخاري إلى الإسناد الثاني. يريد أنه رواه سلمة -وهو ابن الفضل الذي في إسناد الطبري هنا- عن ابن إسحاق. ولم يذكر لفظ الحديث، اكتفاء بهذه الإشارة إليه.
وابن إسحاق -في هذا الإسناد- يرويه عن"محمد بن أبي محمد"، وهو الأنصاري المدني، مولى زيد بن ثابت. زعم الذهبي في الميزان أنه"لا يعرف"! وهو معروف، ترجمه البخاري في الكبير ١/١/٢٢٥ فلم يذكر فيه جرحًا، وذكره ابن حبان في الثقات. وكفى بذلك معرفة وتوثيقًا. ولعله هو"مولى زيد بن ثابت" الذي أبهم في الإسناد الأول. ولكن اضطرب هذا الإسناد على ابن إسحاق، أو على سلمة بن الفضل - فكانت الرواية فيه: عن عكرمة، أو سعيد، يعني ابن جبير، على الشك. ثم كانت عن ابن عباس، دون ذكر"جابر بن عبد الله بن رئاب".
ثالثها: "وعن ابن إسحاق: كان مما نزل فيه القرآن من الأحبار، فيما حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رئاب: مر أبو ياسر بن أخطب بالنبي ﷺ وهو يتلو (ألم)، بطوله - في الحساب".
وهذه الرواية الثالثة، بالإسناد الذي عند الطبري هنا. تابعة للرواية الثانية، عن سلمة بن الفضل، عطفها عليها بقوله"وعن ابن إسحاق"، ليست تعليقًا جديدًا.
وأشار البخاري -بصنيعه هذا- إلى اضطراب الرواية على سلمة بن الفضل، بين هذا وذاك. ولذلك ذهب إلى جرح"سلمة" بهذا الاضطراب، فقال عقب ذلك: "قال علي [يريد به شيخه علي بن المديني، إمام الجرح والتعديل] : ما خرجنا من الري حتى رمينا بحديث سلمة".
وقال في ترجمة سلمة ٢/٢/٨٥: "سلمة بن الفضل أبو عبد الله الأبرش الرازي الأنصاري، سمع محمد بن إسحاق، روى عنه عبد الله بن محمد الجعفي. عنده مناكير. يقال: مولاهم. مات بعد التسعين. وهنه علي"، يعني شيخه ابن المديني. ويعني أن سلمة مات بعد سنة ١٩٠. وقال في التاريخ الصغير ص ٢١٧: "مات سلمة بن الفضل أبو عبد الله الأبرش الرازي الأنصاري بعد تسعين ومائة. قال علي [يعني ابن المديني] : رمينا بحديثه قبل أن نخرج من الري. وضعفه إسحاق بن إبراهيم". وقال في ترجمته أيضًا، في كتاب الضعفاء (ص ١٦) :"سمع محمد بن إسحاق، روى عنه عبد الله بن عمر بن أبان ومحمد بن حميد. ولكن عنده مناكير. وفيه نظر".
وأنا أذهب إلى توثيق سلمة بن الفضل، فقد وثقه ابن معين، فيما رواه ابن أبي حاتم في كتابه، وله عنده ترجمة جيدة وافية ٢/١/١٦٨ - ١٦٩. وروى أيضًا عن جرير، قال: "ليس من لدن بغداد إلى أن تبلغ خراسان أثبت في ابن إسحاق - من سلمة بن الفضل". وقد رجحت توثيقه أيضًا في شرح المسند: ٨٨٦.
وعندي أن هذا الاضطراب إنما هو من ابن إسحاق، أو لعله رواه بهذه الأسانيد كما سمعه. وكلها ضعيف مضطرب. وأشدها ضعفًا الرواية التي هنا، والتي أشار إليها البخاري: من رواية الكلبي عن أبي صالح.
ولله در الحافظ ابن كثير، فقد وضع الحق موضعه، حين قال في التفسير ١: ٦٩ - ٧٠: "وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفن والملاحم - فقد ادعى ما ليس له، وطار في غير مطارد! وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته". ثم نقل هذا الحديث من هذا الموضع من الطبري -ثم قال: "فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به، ثم كان مقتضى هذا المسلك- إن كان صحيحًا: أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها. وذلك يبلغ منه جملة كثيرة. وإن حسبت مع التكرار، فأطم وأعظم!! ".
ومحمد بن السائب الكلبي: ضعيف جدا، رمى بالكذب، بل روى ابن أبي حاتم في الجرح ٣/١/٢٧٠ - ٢٧١ في ترجمته، عن أبي عاصم النبيل، قال: "زعم لي سفيان الثوري قال: قال لنا الكلبي: ما حدثت عنى عن أبي صالح عن ابن عباس، فهو كذب، فلا تروه". وقال أبو حاتم: "الناس مجتمعون على ترك حديثه، لا يشتغل به، هو ذاهب الحديث".
والطبري نفسه قد ضعفه جدا، فيما مضى: ٦٦ إذ أشار إلى رواية عن ابن عباس: "روى جميع ذلك عن ابن عباس، وليست الرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله"، ثم ذكر أن الذي روى ذلك"الكلبي عن أبي صالح". ووصف الحديث: ٧٢ الذي رواه من طريقه، بأنه"خبر في إسناده نظر".
فكان عجبًا منه بعد هذا، أن يحتج بهذه الروايات المتهافتة، ويرضى هذا التأويل المستنكر، بحساب الجمل! إذ يختار فيما سيأتي (هذه الصفحة سطر: ٨ وما بعدها)، أن هذه الأحرف تحوي سائر المعاني التي حكاها إلا قولا واحدًا غير هذا المعنى المنكر. بل هو يصرح بعد ذلك ص: ٢٢٢ سطر: ٨ أن من المعاني التي ارتضاها: أنهن"من حروف حساب الجمل"!!
وقد نقل السيوطي هذا الحديث في الدر المنثور ١: ٢٢، و ٢: ٤ - ٥، ووصفه في الموضع الأول بالضعف. وكذلك نقله الشوكاني ١: ٢٠، وضعفه.
وقوله في آخره: "ويزعمون أن هؤلاء الآيات.. " - هو من تتمة الرواية. وهو من كلام ابن إسحاق حكاية عمن روى عنهم.


الصفحة التالية
Icon