عالمين، وهو لها مُستبينٌ. فذلك أحدُ أوجه خطئه.
والوجه الثاني من خطئه في ذلك: إضافته إلى الله جلّ ثناؤه أنه خاطب عباده بما لا فائدة لهم فيه ولا معنى له، من الكلام الذي سواءٌ الخطابُ فيه به وترك الخطاب به. وذلك إضافة العبث الذي هو منفيٌّ في قول جميع الموحِّدين عن الله - إلى الله تعالى ذكره.
والوجهُ الثالث من خطئه: أن"بل" في كلام العرب مفهومٌ تأويلها ومعناها، وأنها تُدْخلها في كلامها رجوعًا عن كلامٍ لها قد تَقضَّى كقولهم: ما جاءني أخوك بل أبوك ; وما رأيتُ عمرًا بل عبد الله، وما أشبه ذلك من الكلام، كما قال أعشى بني ثعلبة:

وَلأشْرَبَنَّ ثَمَانِيًا وثَمَانِيًا وثَلاثَ عَشْرَةَ واثْنَتَينِ وأَرْبَعَا (١)
ومضى في كلمته حتى بلغ قوله:
بالجُلَّسَانِ، وطَيِّبٌ أرْدَانُهُ بِالوَنِّ يَضْرِبُ لِي يَكُرُّ الإصْبَعَا (٢)
ثم قال:
بَلْ عَدِّ هذا، فِي قَريضٍ غَيْرِهِ وَاذكُرْ فَتًى سَمْحَ الخَلِيقةِ أَرْوَعَا
فكأنه قال: دَعْ هذا وخذ في قريض غيره. فـ "بل" إنما يأتي في كلام العرب على هذا النحو من الكلام، فأما افتتاحًا لكلامها مُبتدأ بمعنى التطوّل والحذف (٣)، من غير أن يدلّ على معنى، فذلك مما لا نعلم أحدًا ادعاه من أهل المعرفة بلسان العرب ومنطقها، سوى الذي ذكرتُ قوله، فيكون ذلك أصلا يشبَّه به حُرُوف المعجم التي هي فواتح سور القرآن التي افتتحت بها -لو كانت له مُشبهةً- فكيف وهي من الشبه به بعيدة؟
* * *
(١) ديوان الأعشى، زيادات: ٢٤٨، باختلاف في الرواية. وانظر مراجعه هناك.
(٢) الجلسان: قبة أو بيت ينثر فيه الورد والريحان للشرب. وقوله: "وطيب أردانه" يعني قينة تغنيهم وتعزف لهم، طيبة الريح، تضمخت وتزينت. والأردان جمع ردن (بضم فسكون) : وهو مقدم كم القميص. والون: صنج يضرب بالأصابع. وقوله"يكر" أي يرد إصبعه مرة بعد مرة في ضربه بالصنج، وأراد به سرعة حركة أصابعها بالصنج. وفي المطبوعة"يكد" بالدال، وهو خطأ.
(٣) انظر ما مضى: ١٨ تعليق: ٢، وعنى بالتطول: الزيادة.


الصفحة التالية
Icon