إذْ كانت تلك السُّور التي نزلت قبل سورة البقرة، من جملة جميع كتابنا هذا، الذي أنزله الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون، لأنّ ذلك أظهرُ معاني قولهم الذي قالوه في"ذلك".
وقد وَجَّه معنى"ذلك" بعضُهم، إلى نظير معنى بيت خُفاف بن نُدبة السُّلميّ:
فَإن تَكُ خَيْلي قد أُصِيبَ صَمِيمُها... فَعَمْدًا على عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مَالِكَا (١) أقولُ له، والرُّمحُ يأطِرُ مَتْنَهُ:... تأمَّل خُفاَفًا، إنني أنا ذلِكَا (٢)
كأنه أراد: تأملني أنا ذلك. فزعم أنّ"ذلك الكتاب" بمعنى"هذا"، نظيرُه (٣). أظهر خفافٌ من اسمه على وجه الخبر عن الغائب، وهو مخبر عن نفسه. فكذلك أظهر"ذلك" بمعنى الخبر عن الغائب (٤)، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهَد.
والقول الأول أولى بتأويل الكتاب، لما ذكرنا من العلل.
وقد قال بعضهم: (ذلك الكتاب)، يعني به التوراة والإنجيل، وإذا وُجّه

(١) الأغاني ٢: ٣٢٩/ ١٣: ١٣٤، ١٣٥/١٦: ١٣٤، والخزانة ٢: ٤٧٠، وغيرهما، ويأتي في الطبري ١: ٣١٤، ٤٣٧. يقول الشعر في مقتل ابن عمه معاوية بن عمرو أخى الخنساء. ومالك، هو مالك بن حِمَار الشمخي الفزاري. والخيل هنا: هم فرسان الغارة، وكان معاوية وخفاف غزوَا بني مرة وفزارة. والصميم: الخالص المحض من كل شيء. وأراد معاوية ومقتله يومئذ. ويقال: "فعلت هذا الأمر عمد عين، وعمدًا على عين"، إذا تعمدته مواجهة بجد ويقين. وتيمم: قصد وأمَّ.
(٢) "أقول له"، يعني لمالك بن حِمَار. وأطر الشيء يأطره أطرًا: هو أن تقبض على أحد طرفي الشيء ثم تعوجه وتعطفه وتثنيه. وأراد أن حر الطعنة جعله يتثنى من ألمها، ثم ينحني ليهوى صريعًا إذ أصاب الرمح مقتله. وأرى أن الإشارة في هذا البيت إلى معنى غائب، كأنه قال: "أنا ذلك الذي سمعت به وببأسه". وهذا المعنى يخرج البيت عن أن يكون شاهدًا على ما أراد الطبري.
(٣) في المطبوعة: "كأنه أراد: تأملني أنا ذلك، فرأى أن"ذلك الكتاب" بمعنى"هذا" نظير ما أظهر خفاف من اسمه... "، وهو تغيير لا خبر فيه.
(٤) في المطبوعة: "فلذلك أظهر ذلك.. ".


الصفحة التالية
Icon