ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح. فكل ما فارق جسده الحي ذا الرّوح، فارقتْه الحياةُ فصار ميتًا. كالعضو من أعضائه - مثل اليد من يديه، والرِّجل من رجليه - لو قطعت فأبِينتْ (١)، والمقطوع ذلك منه حيٌّ، كان الذي بان من جسده ميتًا لا رُوح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح. قالوا: فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح، فإذا فارقته مباينةً له صارت ميتةً، نظيرَ ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه. وهذا قولٌ ووجه من التأويل، لو كان به قائلٌ من أهل القدوة الذين يُرْتضى للقرآن تأويلهم.
* * *
وأولى ما ذكرنا -من الأقوال التي بيَّنَّا- بتأويل قول الله جل ذكره:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم" الآية، القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس: من أن معنى قوله:"وكنتم أمواتًا" أمواتَ الذكر، خمولا في أصلاب آبائكم نطفًا، لا تُعرفون ولا تُذكرون: فأحياكم بإنشائكم بشرًا سويًّا حتى ذُكِرتم وعُرِفتم وحَيِيتم، ثم يُميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رُفاتًا لا تُعرفون ولا تُذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون، ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصَيحة القيامة، ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك، كما قال:"ثم إليه تُرجعون"، لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبلَ حشرهم، ثم يحشرهم لموقف الحساب، كما قال جل ذكره: (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) [سورة المعارج: ٤٣] وقال: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) [سورة يس: ٥١]. والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل، ما قد قدّمنا ذكره للقائلين به، وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل.
وهذه الآية توبيخٌ من الله جل ثناؤه للقائلين:"آمنَّا بالله وباليوم الآخر"، الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم، غيرُ مؤمنين به. وأنهم إنما يقولون ذلك خداعًا لله وللمؤمنين، فعذَلهم الله بقوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم"، ووبَّخهم واحتجّ عليهم - في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة - فقال: كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم، [لبعث القيامة، ومجازاة المسيء منكم بالإساءة والمحسن