أمر المخاطبين بهذه الآية في أولها بالإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال جل ذكره: "وآمِنُوا بما أنزلتُ مصدقًا لما معكم". ومعقول أن الذي أنزله الله في عصر محمد ﷺ هو القرآن لا محمد، لأن محمدًا صلوات الله عليه رسولٌ مرسل، لا تنزيلٌ مُنْزَل، والمنْزَل هو الكتاب. ثم نهاهم أن يكونوا أوَّل من يكفر بالذي أمرهم بالإيمان به في أول الآية (١)، ولم يجر لمحمد ﷺ في هذه الآية ذكرٌ ظاهر، فيعاد عليه بذكره مكنيًّا في قوله:"ولا تكونوا أول كافر به" - وإن كان غير محال في الكلام أن يُذْكر مكنيُّ اسمٍ لم يَجْرِ له ذكرٌ ظاهر في الكلام (٢).
وكذلك لا معنى لقول من زعم أنّ العائد من الذكر في"به" على"ما" التي في قوله:"لما معكم". لأن ذلك، وإن كان محتمَلا ظاهرَ الكلام (٣)، فإنه بعيدٌ مما يدل عليه ظاهر التلاوة والتنزيل، لما وصفنا قبل من أن المأمور بالإيمان به في أول الآية هو القرآن. فكذلك الواجب أن يكون المنهيُّ عن الكفر به في آخرها هو القرآن (٤). وأما أن يكون المأمور بالإيمان به غيرَ المنهيّ عن الكفر به، في كلام واحد وآية واحدة، فذلك غير الأشهر الأظهر في الكلام. هذا مع بُعْد معناه في التأويل. (٥).
٨١٩- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد

(١) في المطبوعة زيادة بين هاتين الجملتين، وهي مقحمة مفسدة للكلام نابية في السياق. ونصها"... في أول الآية من أهل الكتاب، فذلك هو الظاهر المفهوم. ولم يجر لمحمد... ".
(٢) بيان الطبري جيد محكم، وإن ظن بعض من نقل كلامه أن كلا القولين صحيح، لأنهما متلازمان. لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن كفر بمحمد ﷺ فقد كفر بالقرآن (ابن كثير ١: ١٥٠). ونعم، كلا القولين صحيح المعنى في ذاته، ولكن الطبري يحدد دلالة الألفاظ والضمائر في الآية، ويعين ما يحتمله ظاهر التلاوة والتنزيل، ويخلص معنى من معنى، وإن كان كلاهما صحيحًا في العقل، صحيحًا في الحكم، صحيحًا في الدين. وما أكثر ما يتساهل الناس إذا تقاربت المعاني، ولا يخلص معنى من معنى إلا بصير بالعربية كأبي جعفر رضي الله عنه.
(٣) في المطبوعة: "محتمل ظاهر الكلام".
(٤) في المخطوطة: "... أن الأمر بالإيمان به في أول الآية... أن يكون النهي عن الكفر به في آخرها... "، والذي في المطبوعة أجود وأبين.
(٥) وهذا أيضًا من جيد البصر؛ بمنطق العربية، وإن ظنه بعضهم قريبًا من قريب.


الصفحة التالية
Icon