(القولُ في البيانِ عن اتفاق معاني آي القرآن، ومعاني منطِق مَنْ نزل بلسانه القرآن من وَجْه البيان -والدّلالة على أن ذلك من الله تعالى ذكره هو الحكمة البالغة- مع الإبانةِ عن فضْل المعنَى الذي به بَايَن القرآنُ سائرَ الكلام)
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ، رحمه الله:
إن من أعظم نعم الله تعالى ذكره على عباده، وجسيم مِنَّته على خلقه، ما منحهم من فَضْل البيان الذي به عن ضمائر صُدورهم يُبينون، وبه على عزائم نفوسهم يَدُلّون، فذَلَّل به منهم الألسن (١) وسهَّل به عليهم المستصعب. فبِهِ إياه يُوَحِّدون، وإيَّاه به يسَبِّحون ويقدِّسون، وإلى حاجاتهم به يتوصّلون، وبه بينهم يتَحاورُون، فيتعارفون ويتعاملون.
ثم جعلهم، جلّ ذكره -فيما منحهم من ذلك- طبقاتٍ، ورفع بعضهم فوق بعض درجاتٍ: فبَيْنَ خطيب مسْهِب، وذَلِقِ اللسان مُهْذِب، ومفْحَمٍ (٢) عن نفسه لا يُبين، وَعىٍّ عن ضمير قلبه لا يعبَر. وجعل أعلاهم فيه رُتبة، وأرفعهم فيه درجةً، أبلغَهم فيما أرادَ به بَلاغًا، وأبينَهم عن نفسه به بيانَا. ثم عرّفهم في تنزيله ومحكم آيِ كتابه فضلَ ما حباهم به من البيان، على من

(١) ذلل الشيء: لينه وسهله ونفى عنه جفوته وصعوبته.
(٢) أسهب الرجل: أكثر الكلام، فإذا أكثر الكلام في خطأ قالوا: رجل مسهب (بفتح الهاء)، وإذا أكثر وأصاب فهو مسهب (بكسر الهاء). وذلق اللسان: فصيح طليق لا يتوقف. وقوله "مهذب": من أهذب الطائر في طيرانه، والفرس في عدوه، والمتكلم في كلامه: أسرع وتابع، وفي حديث أبي ذر "فجعل يهذبُ الركوع" أي يسرع فيه ويتابعه. يقال: كلمنى فلان فأفحمته: أسكته فلم يطق جوابًا وانقطع، فهو مفحم. وفي المطبوعة "ومعجم عن نفسه.."


الصفحة التالية
Icon