والآخر منهما: أن يكون"الإهلاك" هو"البأس" بعينه، فيكون في ذكر"الإهلاك" الدلالةُ على ذكر"مجيء البأس"، وفي ذكر"مجيء البأس" الدلالة على ذكر"الإهلاك".
وإذا كان ذلك كذلك، كان سواء عند العرب، بُدئ بالإهلاك ثم عطف عليه بالبأس، أو بدئ بالبأس ثم عطف عليه بالإهلاك. وذلك كقولهم:"زرتني فأكرمتني"، إذ كانت "الزيارة" هي"الكرامة"، فسواء عندهم قدم"الزيارة" وأخر"الكرامة"، أو قدم"الكرامة" وأخر"الزيارة" فقال:"أكرمتني فزرتني". (١)
* * *
وكان بعض أهل العربية يزعم أن في الكلام محذوفًا، لولا ذلك لم يكن الكلام صحيحًا = وأن معنى ذلك: وكم من قرية أهلكناها، فكان مجيء بأسنا إياها قبل إهلاكنا. (٢) وهذا قول لا دلالة على صحته من ظاهر التنزيل، ولا من خبر يجب التسليم له. وإذا خلا القولُ من دلالة على صحته من بعض الوجوه التي يجبُ التسليم لها، كان بيّنًا فساده.
* * *
وقال آخر منهم أيضًا: معنى"الفاء" في هذا الموضع معنى"الواو". وقال: تأويل الكلام: وكم من قرية أهلكناها، وجاءها بأسنا بياتًا. وهذا قول لا معنى له، إذ كان لـ"الفاء" عند العرب من الحكم ما ليس للواو في الكلام، فصرفها إلى الأغلب من معناها عندهم، ما وجد إلى ذلك سبيل، أولى من صرفها إلى غيره.
* * *
فإن قال: وكيف قيل: (فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون)، وقد علمت أن الأغلب من شأن"أو" في الكلام، اجتلابُ الشك، وغير جائز أن يكون في خبر الله شك؟
(٢) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن ١: ٣٧١، قال: ((وإن شئت كان المعنى: وكم من قرية أهلكناها، فكان مجيء البأس قبل الإهلاك، فأضمرت كان.)).