وقرأ بعضهم:"وَفِيهِ يُعْصَرُونَ"، بمعنى: يمطرون.
وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، لخلافها ما عليه قرأة الأمصار.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك أن لقارئه الخيارَ في قراءته بأي القراءتين الأخريين شاء، إن شاء بالياء، ردًّا على الخبر به عن"الناس"، على معنى: فيه يُغاث الناس وفيه يَعْصرون أعنابهم وأدهانهم= وإن شاء بالتاء، ردًّا على قوله: (إلا قليلا مما تحصنون)، وخطابًا به لمن خاطبه بقوله: (يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون) =لأنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار باتفاق المعنى، وإن اختلفت الألفاظ بهما. وذلك أن المخاطبين بذلك كان لا شك أنهم إذا أغيثوا وعَصَروا، أغيث الناس الذين كانوا بناحيتهم وعصروا. وكذلك كانوا إذا أغيث الناس بناحيتهم وعصروا، أغيث المخاطبون وعَصَروا، فهما متفقتا المعنى، وإن اختلفت الألفاظ بقراءة ذلك.
* * *
وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل، ممن يفسر القرآن برأيه على مَذهب كلام العرب، (١) يوجه معنى قوله: (وفيه يعصرون) إلى: وفيه ينجون من الجدب والقحط بالغيث، ويزعم أنه من"العَصَر" و"العُصْرَة" التي بمعنى المنجاة، (٢) من قول أبي زبيد الطائي:

صَادِيًا يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغَاثٍ وَلَقَدْ كَانَ عُصْرَةَ المَنْجُودِ (٣)
(١) يعني أبا عبيدة معمر بن المثنى، فهو قائل ذلك في كتابه مجاز القرآن ١: ٣١٣، ٣١٤.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة (من العصر والعصر) التي بمعنى المناجاة، والصواب من مجاز القرآن لأبي عبيدة.
(٣) أمالي اليزيدي: ٨، وجمهرة أشعار العرب: ١٣٨، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٣١٣ واللسان (نجد) و (عصر)، وغيرها، من قصيدة رثى بها أخاه اللجلاج، وكان مات عطشًا في طريق مكة. يقول قبله، وهو من جيد الشعر:
كُلَّ مَيْتٍ قَدِ اغْتَفَرَتُ فَلاَ أَجْـ ـزَعُ مِنْ وَالِدٍ وَلاَ مَوْلُودِ
غَيْرَ أَنَّ اللّجْلاجَ هَدَّ جَنَاحِي يَوْمَ فَارَقْتُهُ بِأَعْلَى الصَّعِيدِ
فِي ضَرِيحٍ عَلَيْهِ عِبْءٌ ثَقِيلٌ مِنْ تُرَابٍ وَجَنْدَلٍ مَنْضودِ
عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ عِنْدَ صَدٍ حَرَّ انَ يَدْعُو باللَّيْلِ غَيْرَ مَعُودِ
و" المنجود" المكروب، والمقهور، والهالك، كله جيد.


الصفحة التالية
Icon