فهو في معنى: حتى إذا علموا أن ليس وجه إلا الذي رأوا وانتهى علمهم، فكان ما سواه يأسا. (١)
* * *
وأما أهل التأويل فإنهم تأولوا ذلك بمعنى: أفلم يعلَم ويتبيَّن.
*ذكر من قال ذلك
٢٠٤٠٨- حدثني يعقوب قال: حدثنا هشيم، عن أبي إسحاق الكوفي، عن [مولى مولى بحير] أن عليًّا رضي الله عنه كان يقرأ:"أَفَلَمْ يَتَبيَّنِ الَّذِينَ آمنُوا". (٢)
٢٠٤٠٩- حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا عبد الوهاب، عن هارون، عن حنظلة، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس: (أفلم ييأس) يقول: أفلم يتبيّن.
٢٠٤١٠- حدثنا أحمد بن يوسف قال: حدثنا القاسم قال: حدثنا يزيد، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن الخِرِّيت= أو يعلى بن حكيم=، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه كان يقرؤها:"أَفَلَمْ يَتَبيَّنِ الَّذِينَ آمنُوا"؛ قال: كتب الكاتب الأخرى وهو ناعسٌ. (٣)

(١) في معاني القرآن:" فكان ما وراءه يأسا"، وهو جيد.
(٢) الأثر: ٢٠٤٠٨ -" أبو إسحاق الكوفي"، هو" عبد الله بن ميسرة"، ضعيف واهي الحديث، ووثقه ابن حبان، مضى برقم: ٦٩٢٠، ١٣٤٨٩، ٢٠٠٧٨، وكان هشيم يكنيه بابن له يقال له" إسحاق"، وكنيته" أبو ليلى" وهشيم يدلس بهذه الكنية. وكان في المخطوطة" ابن إسحاق الكوفي"، وهو خطأ صرف.
وأما الذي بين القوسين، فهو هكذا جاء في المخطوطة، وجعل مكانه في المطبوعة:" عن مولى يخبر"، تصرف في الإسناد أسوأ التصرف وأشنعه. وهذا الذي بين القوسين ربما قرئ آخره:" مولى بحتر"، وقد استوعبت ما في تهذيب الكمال للحافظ المزي، في باب من روى عن" علي بن أبي طالب"، وباب من روى عنه" أبو إسحاق الكوفي"، فلم أجد شيئًا قريب التحريف من هذا الذي عندنا.
ومهما يكن من شيء، فحسب هذا الإسناد وهاء أن يكون فيه" أبو سحاق الكوفي"، ثم انظر التعليق على الأثر التالي رقم: ٢٠٤١٠.
وكان في المطبوعة:" كان يقول" مكان:" كان يقرأ"، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأن الناسخ كتب"يقول" ثم جعل الواو" راء"، وأدخل الألف في اللام، ووضع عليها الهمزة، فاختلط الأمر على الناشر.
(٣) الأثر: ٢٠٤١٠ -" أحمد بن يوسف التغلبي الأحول"، شيخ أبي جعفر الطبري، هو صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام، مشهور بصحبته، ثقة مأمون، مضى مرارًا آخرها رقم: ١٢٩٩٤ وهو الذي أخذ عنه أبو جعفر الطبري كتب أبي عبيد القاسم بن سلام.
و" القاسم"، هو" القاسم بن سلام"،" أبو عبيد"، الفقيه القاضي، صاحب التصانيف المشهورة، كان إمام دهره في جميع العلوم، وهو صاحب سنة، ثقة مأمون، وثناء الأئمة عليه ثناء لا يدرك.
و" يزيد"، هو" يزيد بن هرون السلمي"، وهو أحد الحفاظ الثقات الأثبات المشاهير، روى له الجماعة، مضى مرارًا آخرها رقم: ١٠٤٨٤.
و" جرير" هو" جرير بن حازم الأزدي"، ثقة حافظ، روى له الجماعة، مضى مرارًا آخرها رقم: ١٤١٥٧.
و" الزبير بن الخريت". ثقة، روى له الجماعة سوى النسائي، مضى برقم: ٤٩٨٥، ١١٦٩٣، وكان في المطبوعة:" الزبير بن الحارث"، غير ما في المخطوطة مجازفة.
و" يعلي بن حكيم"، ثقة، روى له الجماعة سوى الترمذي، مضى برقم: ١٢٧٤٨.
فهذا خبر رجاله ثقات، بل كل رجاله رجال الصحيحين، سوى أبي عبيد القاسم بن سلام، وهو أمام ثقة صدوق، فإسناده صحيح، لا مطعن فيه - ومع صحة إسناده لم أجد أحدًا من أصحاب الدواوين الكبار، كأحمد في مسنده، أو الحاكم في المستدرك، ولا أحدًا ممن نقل عن الدواوين الكبار، كالهيثمي في مجمع الزوائد، أخرج هذا الخبر أو أشار إلى هذه القراءة عن ابن عباس، أو علي بن أبي طالب، كما جاء في الخبر الذي قبله رقم: ٢٠٤٠٨، بل أعجب من ذلك أن ابن كثير، وهو المتعقب أحاديث أبي جعفر في التفسير، لما بلغ تفسير هذه الآية، لم يفعل سوى أن أشار إلى قراءة ابن عباس، وأغفل هذا الخبر إغفالًا على غير عادته، وأكبر ظني أن ابن كثير عرف صحة إسناده، ولكنه أنكر ظاهر معناه إنكارًا حمله على السكوت عنه، وكان خليقًا أن يذكره ويصفه بالغرابة أو النكارة، ولكنه لم يفعل، لأنه فيما أظن قد تحير في صحة إسناده، مع نكارة ما يدل عليه ظاهر لفظه. وزاد هذا الظاهر نكارة عنده، ما قاله المفسرون قبله في هذا الخبر عن ابن عباس، حين رووه غير مسند بألفاظ غير هذه الألفاظ.
فلما رأيت ذلك من فعل ابن كثير وغيره، تتبعت ما نقله الناقلون من ألفاظ الخبر، فوجدت بين ألفاظ الخبر التي رويت غير مسندة، وبين لفظ أبي جعفر المسند، فرقًا يلوح علانية، وألفاظهم هذه هي التي دعت كثيرًا من الأئمة يقولون في الخبر مقالة سيئة، بلغت مبلغ الطعن في قائله بأنه زنديق ملحد! ونعم، فإنه لحق ما قالوه في الخبر الذي رووه بألفاظهم، أما لفظ أبي جعفر هذا، وإن كان ظاهره مشكلا، فإن دراسته على الوجه الذي ينبغي أن يدرس به، تزيل عنه قتام المعنى الفاسد الذي يبتدر المرء عند أول تلاوته.
فلما شرعت في دراسته من جميع وجوه الدراسة، انفتح لي باب عظيم من القول في هذا الخبر وأشباهه، من مثل قول عائشة أم المؤمنين:" يا ابن أخي، أخطأ الكاتب"، أي ما كتب في المصحف الإمام، ومعاذ الله أن يكون ذلك ظاهر لفظ حديثها. وهذان الخبران وأشباه لهما يتخذهما المستشرقون وبطانتهم ممن ينتسبون إلى أهل الإسلام، مدرجة للطعن في القرآن. أو تسويلا للتلبيس على من لا علم عنده بتنزيل القرآن العظيم، فاقتضاني الأمر أن أكتب رسالة جامعة في بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم:" أنزل القرآن على سبعة أحرف"، وكيف كانت هذه الأحرف السبعة وما الذي بقي عندنا منها، وانتهيت إلى أنها بحمد الله باقية بجميعها في قراءات القرأة، وفي شاذ القراءة، وفي رواية الحروف، لا كما ذهب إليه أبو جعفر الطبري في مقدمة تفسيره (١: ٥٥ - ٥٩)، ومن ذهب في ذلك مذهبه. ثم بينت ما كان من أمر كتابة المصحف على عهد أبي بكر، ثم كتابة المصحف الإمام على عهد عثمان رضي الله عنهما، وجعلت ذلك بيانًا شافيًا كافيًا بإذن الله. وكنت على نية جعل هذه الرسالة مقدمة للجزء السادس عشر من تفسير أبي جعفر ولكنها طالت حتى بلغت أن تكون كتابًا، فآثرت أن أفردها كتابًا يطبع على حدته إن شاء الله.


الصفحة التالية
Icon