واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الأمصار بكسر الشين (إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ) سوى أبي جعفر القارئ، فإن المثنى حدثني، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: ثني أبو سعيد الرازي، عن أبي جعفر قارئ المدينة، أنه كان يقرأ "لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس" بفتح الشين، وكان يقول: إنما الشقّ: شقّ النفس. وقال ابن أبي حماد: وكان معاذ الهرّاء يقول: هي لغة، تقول العرب بشَقّ وبشِقّ، وبرَق وبرِق.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار وهي كسر الشين، لإجماع الحجة من القرّاء عليه وشذوذ ما خالفه، وقد يُنشد هذا البيت بكسر الشين وفتحها، وذلك قول الشاعر:
وذِي إبِلٍ يَسْعَى وَيحْسِبُها لَهُ... أخِي نَصَبٍ مِنْ شَقِّها ودُءُوبِ (١)
و"من شَقِها" أيضا بالكسر والفتح، وكذلك قول العجاج:
أصبحَ مَسْحُولٌ يُوَازِي شَقًّا (٢)
و"شقا" بالفتح والكسر. ويعني بقوله "يوازي شَقا": يقاسي مشقة. وكان بعض أهل العربية يذهب بالفتح إلى المصدر من شققت عليه أشقّ شقا، وبالكسر إلى الاسم. وقد يجوز أن يكون الذين قرءوا بالكسر أرادوا إلا بنقص من القوّة وذهاب شيء منها حتى لا يبلغه إلا بعد نقصها، فيكون معناه عند ذلك: لم تكونوا بالغيه إلا بشقّ قوى أنفسكم، وذهاب شقها الآخر، ويحكى عن العرب: خذ هذا الشَّقَّ: لشقة الشاة بالكسر، فأما في شقت عليك شقا فلم يحك فيه إلا النصب.
وقوله (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) يقول تعالى ذكره: إن ربكم أيها الناس ذو رأفة بكم، ورحمة، من رحمته بكم، خلق لكم الأنعام لمنافعكم ومصالحكم، وخلق السموات والأرض أدلة لكم على وحدانية ربكم ومعرفة إلهكم،

(١) البيت للنمر بن تولب العكلي (اللسان: شقق) وقال أبو عبيدة في معاني القرآن (١: ٣٥٦) " إلا بشق الأنفس " بكسر أوله وبفتح، ومعناه: بمشقة الأنفس. وفي اللسان: الشق المشقة. قال ابن بري شاهد الكسر قول النمر بن تولب: وذي إبل... البيت.
(٢) البيت في ديوان العجاج (طبع ليبسج سنة ١٩٠٣ ص ٤٤٠) وهو شاهد على أن الشق بالكسر بمعنى المشقة. ومسحول: يعني بعيره، ويوازي: يقاسي.


الصفحة التالية
Icon