يسدّده ويرشده، ويكون فيما بينه وبين الله، ويحدث إليه في أمرهم، لا ينزل عليهم الكتب، إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها، وينهونهم عن المعصية، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة؛ فلما ملك ذلك الملك، بعث الله معه شعياء بن أمُصيا (١) وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى وشعياء الذي بشَّر بعيسى ومحمد، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا؛ فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث، وشعياء معه، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل، ومعه ستّ مئة ألف راية، فأقبل سائرا حتى نزل نحو بيت المقدس، والملك مريض في ساقه قرحة، فجاء النبي شعياء، فقال له: يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل، قد نزل بك هو وجنوده ستّ مئة ألف راية، وقد هابهم الناس وفرّقوا منهم، فكبر ذلك على الملك، فقال: يا نبيّ الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث، فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده، فقال له النبيّ عليه السلام: لم يأتني وحي أحدث إليّ في شأنك، فبيناهم على ذلك، أوحى الله إلى شعياء النبيّ: أن ائت ملك بني إسرائيل، فمره أن يوصي وصيته، ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته. فأتى النبيّ شيعاء ملك بني إسرائيل صديقة، فقال له: إن ربك قد أوحى إليّ أن آمرك أن توصي وصيتك، وتستخلف من شئت على مُلكك من أهل بيتك، فإنك ميت؛ فلما قال ذلك شعياء لصديقة، أقبل على القبلة، فصلى وسبح ودعا وبكى، فقال وهو يبكي ويتضرّع إلى الله بقلب مخلص وتوكل وصبر وصدق وظنّ صادق، اللهمّ ربّ الأرباب، وإله الآلهة، قدُّوس المتقدسين، يا رحمن يا رحيم، المترحم الرءوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، اذكرني بعملي وفعلي وحُسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك، فأنت أعلم به من نفسي؛ سرّي وعلانيتي لك، وإن الرحمن استجاب له وكان عبدا صالحا، فأوحى الله إلى شعياء أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه، وقد رأى بكاءه، وقد أخَّر أجله خمس عشرة سنة، وأنجاه من عدوّه سنحاريب ملك بابل وجنوده، فأتى شعياء النبيّ إلى ذلك الملك فأخبره بذلك، فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع، وانقطع عنه الشرّ والحزن وخرّ ساجدا وقال: يا إلهي وإله آبائي، لك سجدت وسبَّحت وكرمت وعظمت، أنت الذي تعطي المُلك من تشاء، وتنزعه ممن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذلّ من تشاء، عالم الغيب والشهادة، أنت الأوّل والآخر، والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرّين، أنت الذي أحببت دعوتي ورحمت تضرّعي؛ فلما رفع رأسه، أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده بالتينة، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى، ويصبح وقد برأ، ففعل ذلك فشفي، وقال الملك لشعياء النبيّ: سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدوّنا هذا، قال: فقال الله لشعياء النبيّ: قل له: إني قد كفيتك عدوّك، وأنجيتك منه، وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب وخمسة من كتابه؛ فلما أصبحوا جاءهم صارخ ينبئهم، فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل، إن الله قد كفاك عدوّك فاخرج، فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا؛ فلما خرج الملك التمس سنحاريب، فلم يُوجد في الموتى، فبعث الملك في طلبه، فأدركه الطلب في مغارة وخمسة من كتابه، أحدهم بختنصر، فجعلوهم في الجوامع، ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل؛ فلما رآهم خرّ ساجدا من حين طلعت الشمس حتى كانت العصر، ثم قال لسنحاريب: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم يقتلكم بحوله وقوّته، ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنحاريب له: قد أتاني خبر ربكم، ونصره إياكم، ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي، فلم أطع مرشدا، ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، ولكن الشقوة غلبت عليّ وعلى من معي، فقال ملك بني إسرائيل: الحمد لله رب العزّة الذي كفاناكم بما شاء، إن ربنا لم يُبقك ومن معك لكرامة بك عليه، ولكنه إنما أبقاك ومن معك لما هو شرّ لك، لتزدادوا شقوة في الدنيا، وعذابا في الآخرة، ولتخبروا من وراءكم بما لقيتم من فعل ربنا، ولتنذروا من بعدكم، ولولا ذلك ما أبقاكم، فلدمُك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلته، ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه، فقذف في رقابهم الجوامع، وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس إيليا، وكان يرزقهم في كلّ يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل: القتل خير مما يفعل بنا، فافعل ما أمرت، فنقل بهم الملك إلى سجن القتل، فأوحى الله إلى شعياء النبيّ أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم، وليكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم؛ فبلَّغ النبيّ شعياء الملك ذلك، ففعل، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل؛ فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده، فقال له كهَّانه وسحرته: يا ملك بابل قد كنا نقصّ عليك خبر ربهم وخبر نبيهم، ووحي الله إلى نبيهم، فلم تطعنا، وهي أمَّة لا يستطيعها أحد مع ربهم، فكان أمر سنحاريب مما خوّفوا، ثم كفاهم الله تذكرة وعبرة، ثم لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين، ثم مات.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما مات سنحاريب استخلف بختنصر ابن ابنه على ما كان عليه جدّه يعمل بعمله، ويقضي بقضائه، فلبث سبع عشرة سنة. ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة؛ فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا المُلك، حتى قتل بعضهم بعضا عليه، ونبيهم شعياء معهم لا يذعنون إليه، ولا يقبلون منه؛ فلما فعلوا ذلك، قال الله فيما بلغنا لشعياء: قم في قومك أوح على لسانك؛ فلما قام النبيّ أنطق الله لسانه بالوحي فقال: يا سماء استمعي، ويا أرض أنصتي، فإن الله يريد أن يقصّ شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته، واصطفاهم لنفسه، وخصَّهم بكرامته، وفضلهم على عباده، وفضَّلهم بالكرامة، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها، فآوى شاردتها، وجمع ضالتها، وجبر كسيرها، وداوى مريضها، وأسمن مهزولها، وحفظ سمينها؛ فلما فعل ذلك بطرت، فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا، حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير، فويل لهذه الأمة الخاطئة، وويل لهؤلاء القوم الخاطئين الذين لا يدرون أين جاءهم الحين. إن البعير ربما يذكر وطنه فينتابه، وإن الحمار ربما يذكر الآريّ الذي شبع عليه فيراجعه، وإن الثور ربما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه، وإن هؤلاء القوم لا يدرون من حيث جاءهم الحين، وهم أولو الألباب والعقول، ليسوا ببقر ولا حمير، وإني ضارب لهم مثلا فليسمعوه: قل لهم: كيف ترون في أرض كانت خواء زمانا، خربة مواتا لا عمران فيها، وكان لها ربّ حكيم قويّ، فأقبل عليها بالعمارة، وكره أن تخرب أرضه وهو قويّ، أو يقال ضيع وهو حكيم، فأحاط عليها جدارا،