بقوله هذا إلى أن الحصير في هذا الموضع عني به الحصير الذي يُبْسط ويفترش، وذلك أن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا، فوجَّه الحسن معنى الكلام إلى أن الله تعالى جعل جهنم للكافرين به بساطا ومهادا، كما قال (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) وهو وجه حسن وتأويل صحيح، وأما الآخرون، فوجهوه إلى أنه فعيل من الحصر الذي هو الحبس. وقد بيَّنت ذلك بشواهده في سورة البقرة، وقد تسمي العرب الملك حصيرا
بمعنى أنه محصور: أي محجوب عن الناس، كما قال لبيد:

وَمَقاَمةٍ غُلْبِ الرّقابِ كأنَّهُمْ جِنٌّ لَدَى بابِ الحَصِيرِ قِيامُ (١)
يعني بالحصير: الملك، ويقال للبخيل: حصور وحصر: لمنعه ما لديه من المال عن أهل الحاجة، وحبسه إياه عن النفقة، كما قال الأخطل:
وشَارِبٍ مُرْبِحٍ بالكأْسِ نادَمَنِي لا بالحَصُورِ وَلا فِيها بِسَوَّارِ (٢)
ويروى: بسآر. ومنه الحصر في المنطق لامتناع ذلك عليه، واحتباسه إذا أراده. ومنه أيضا الحصور عن النساء لتعذّر ذلك عليه، وامتناعه من الجماع، وكذلك الحصر في الغائط: احتباسه عن الخروج، وأصل ذلك كله واحد وإن اختلفت ألفاظه. فأما الحصيران: فالجنبان، كما قال الطرمّاح:
قَلِيلا تَتَلَّى حاجَةً ثُمَّ عُولِيَتْ عَلى كُلّ مَفْرُوشِ الحَصِيرَيْنِ بادِنِ (٣)
يعني بالحصيرين: الجنبيّن.
(١) البيت في (ديوان لبيد، طبع ليدن سنة ١٨٩١ ص ٣٩). والرواية فيه: "لدى طرف الحصير". وروايته في (مجاز القرآن لأبي عبيدة ص ٣٧١) وفي (لسان العرب: قوم) : كرواية المؤلف هنا. قالا: ويقال للملك حصير، لأنه محجوب. والمقامة والمقام المجلس، ومقامات الناس: مجالسهم والمقامة: السادة، والغلب: جمع أغلب، وصف من غلب غلبا (كفرح فرحا) : إذا غلظت رقبته. وفي (اللسان: حصر) ذكر هذا الشاهد كرواية المؤلف مع وضع لفظة "وقماقم" في مكان: "ومقامة" وأشار إلى الرواية الأخرى. ثم قال: والحصير المحبس، وفي التنزيل: "وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا"، قال القتيبي: هو من حصرته، أي حبسته. فهو محصور، وهذا حصيره، أي محبسه.
(٢) تقدم شرح هذا الشاهد في الجزء الثالث من هذا التفسير (ص ٢٥٥).
(٣) البيت في ديوان الطرماح بن حكيم (طبع ليدن سنة ١٩٢٧ ص ١٦٤) وقتلى الشيء: تتبعه وتتلى أيضا: بقي بقية من دينه. وعوليت: ذهب بها إلى العالية، وهي نجد والحصير سفيفة تصنع من بردي وأسل ثم تفرش.


الصفحة التالية
Icon