بعض نحوييّ أهل البصرة يقول: نُصبت كلمة لأنها في معنى: أكْبِر بها كلمة، كما قال جل ثناؤه (وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) وقال: هي في النصب مثل قول الشاعر:

ولقدْ عَلِمْتُ إذَا اللِّقاحُ تَرَوَّحتْ هَدَجَ الرّئالِ تكُبُّهُنَّ شَمالا (١)
أي تكبهنّ الرياح شمالا فكأنه قال: كبرت تلك الكلمة، وذُكِر عن بعض المكيين أنه كان يقرأ ذلك: (كَبُرَتْ كَلِمَةٌ) رفعا، كما يقال: عَظُمَ قَولك وكَبُر شأنُك. وإذا قرئ ذلك كذلك لم يكن في قوله (كَبُرَتْ كَلِمةٌ) مُضمر، وكان صفة للكلمة.
والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءة من قرأ: (كَبُرَتْ كَلِمةً) نصبا لإجماع الحجة من القراء عليها، فتأويل الكلام: عَظُمت الكلمة كلمة تخرج من أفواه هؤلاء القوم الذين قالوا: اتخذ الله ولدا، والملائكة بنات الله.
كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق (كَبُرَتْ كَلِمةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) قولهم: إن الملائكة بنات الله، وقوله: (إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا) يقول عز ذكره:
ما يقول هؤلاء القائلون اتخذ الله ولدا بقيلهم ذلك إلا كذبا وفرية افتروها على الله.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ
(١) البيت غير منسوب. واللقاح: هي النوق ذوات اللبن، تنتج في أول الربيع فتكون لقاحا، واحدتها لقحة (بفتح اللام وكسرها) فلا تزال لقاحا حتى يدبر الصيف عنها. (انظر اللسان: لقح). وتروحت: عادت من مراعيها إلى مراحها. أو تروحت: أصابتها الريح. والهدج (بسكون الدال) مصدر هدج يهدج هدجا وهدجانا، وهو المشي الرويد في ضعف. يقال: هدج الظليم يهدج هدجانا والرئال: جمع رأل، وهو ولد النعام، وخص بعضهم به الحولي. ويقال في جمعه: أرؤل، ورئلان، ورئال، ورئالة (اللسان: رأل) وتكبهن: تلقيهن على صدورهن في الأرض. والشمال: الريح تهب من جهة الشمال. شبه سير اللقاح في رجوعها إلى مراحها بهدجال الرئال، وهو مشي ضعيف يريد أن اللقاح في ذلك الوقت تهدج في سيرها هدج الرئال حين تسوقهن ريح الشمال.
والشاهد في قوله: تكبهن شمالا، فإن شمالا منصوب على التمييز، وهو محول عن الفاعل. والأصل تكبهن شمال. وهو نظير نصب كلمة من قوله تعالى: (كَبُرَتْ كَلِمَةً) فإن كلمة منصوبة على التمييز، وهو تمييز نسبة محول عن الفاعل والأصل كبرت كلمة (بالرفع).


الصفحة التالية
Icon