وانطفأ نوره، كما يقال للشيء الحارّ إذا ذهبت فورته، وسكن حدّ حرّه، قد سكر يسكر، قال المثنى بن جندل الطُّهوي:

جاءَ الشِّتاءُ واجْثَألَّ القُبَّرُ واستَخْفَتِ الأفْعَى وكانت تَظْهَرُ
وجَعَلَتْ عينُ الحَرُور تَسْكُرُ (١)
أي تسكن وتذهب وتنطفئ، وقال ذو الرّمَّة:
قَبْلَ انْصِداعِ الفَجْرِ والتَّهَجْرِ وخَوْضُهُنَّ اللَّيلَ حينَ يَسْكُرُ (٢)
يعني: حين تسكن فورته. وذُكر عن قيس أنها تقول: سكرت الريح تسكر سكورا، بمعنى: سكنت، وإن كان ذلك عنها صحيحا، فإن معنى سُكِرَت وسُكِّرَتْ بالتخفيف والتشديد متقاربان، غير أن القراءة التي لا أستجيز غيرها في القرآن (سُكِّرَتْ) بالتشديد لإجماع الحجة من القراء عليها، وغير جائز خلافها فيما جاءت به مجمعة عليه.
(١) هذه ثلاثة أبيات لجندل بن المثنى الطهوي، واجثأل: اجتمع وتقبض، والقبر كالقنبر: ضرب من الطير كالعصافير، واحده قبرة وقنبرة، والحرور: الحر. ويقال سكرت عينه تسكر: إذا تحيرت وسكنت عن النظر وسكر الحر يسكر: سكن وخبأ، وقد استشهد بها أبو عبيدة في مجاز القرآن (١: ٣٣٧، ٣٣٨) عند قوله تعالى " سكرت أبصارنا " قال: أي غشيت سمادير، فذهبت وخبا نظرها، قال: جاء الشتاء، الخ وزاد فيها بيتا قبل الآخر، وهو: " وطلعت شمس عليها مغفر ". وفسر البيت الأخير وهو الشاهد بقوله: أي يذهب حرها ويخبو. وقال أبو عمرو بن العلاء: " سكرت أبصارنا ": مأخوذ عن سكر الشراب، كأن العين لحقها ما يلحق شارب المسكر إذا سكر، وقال الفراء، معناه: حبست ومنعت عن النظر.
(٢) البيت في ديوان ذي الرمة (طبعة كيمبردج سنة ١٩١٩) ص ٢٠٢ وقبله:
أتَتْكَ بالقَوْمِ مَهارٍ ضُمَّرُ خُوصٌ بَرَى أشْرافَها التَّبَكُّرُ
خوص: غائرات العيون، وأشرافها: أسنمَها، والتبكر: سير البكرة، والتهجو: سير الهاجرة، ويسكر: يتسكر الأبصار بظلامه، قوله: والتهجر، بالرفع: معطوف على قوله التبكر، في البيت السابق عليه.

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (١٦) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولقد جعلنا في السماء الدنيا منازل للشمس والقمر،


الصفحة التالية
Icon