قال أبو جعفر: وقد بيَّنا فيما مضى من كتابنا هذا معنى الفتنة، وأنها الابتلاء والاختبار بالأدلة المُغنية عن الإعادة في هذا الموضع.
وقوله (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) وهذا الكلام قد حذف منه بعض ما به تمامه اكتفاء بدلالة ما ذكر عما حذف. ومعنى الكلام: وفتناك فتونا، فخرجت خائفا إلى أهل مدين، فلبثت سنين فيهم.
وقوله (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) يقول جلّ ثناؤه: ثم جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلى فرعون رسولا ولمقداره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) يقول: لقد جئت لميقات يا موسى.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن مجاهد، قال (عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) قال: موعد.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قال: علي ذي موعد.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) قال: قدر الرسالة والنبوّة، والعرب تقول: جاء فلان على قدر: إذا جاء لميقات الحاجة إليه; ومنه قول الشاعر:

نالَ الخِلافَةَ أوْ كانَتْ لَهُ قَدَرا كَمَا أَتى رَبَّهُ مُوسَى عَلى قَدَرِ (١)
(١) هذا البيت لجرير، من قصيدة عدة تسعة وعشرون بيتا في ديوانه (طبعة الصاوي بالقاهرة ٢٧٤ - ٢٧٦) والرواية فيه: " نال الخلافة " كرواية المؤلف، وفي بعض كتب الشواهد: " جاء الخلافة ". وفي هامش الديوان: ويروى: " عز الخلافة " البيت. ومحل الشاهد في البيت، قوله: " على قدر " فإن معناه: القضاء الموافق. قال في (اللسان: قدر) : يقال: قدر الإله كذا تقديرا؛ وإذا وافق الشيء الشيء قلت: جاء قدره، وقال ابن سيده: القدر والقدر (بسكون الدال وتحريكها) : القضاء والحكم، وهو ما يقدره الله عز وجل من القضاء، ويحكم به من الأمور.


الصفحة التالية
Icon