وتضرّعت لأمتي فلم ترحمني، وقع عليّ البلاء فرفضوني، أنتم كنتم أشدّ عليّ من مصيبتي، انظروا وابهتوا من العجائب التي في جسدي، أما سمعتم بما أصابني، وما شغلكم عني ما رأيتم بي، لو كان عبد يخاصم ربه رجوت أن أتغلب عند الحكم، ولكن لي ربا جبارا تعالى فوق سماواته، وألقاني هاهنا، وهنت عليه، لا هو عذرني بعذري، ولا هو أدناني فأخاصم عن نفسي يسمعني ولا أسمعه، ويراني ولا أراه، وهو محيط بي، ولو تجلى لي لذابت كليتاي، وصعق روحي، ولو نفسني فأتكلم بملء فمي، ونزع الهيبة مني، علمت بأيّ ذنب عذّبني، نودي فقيل: يا أيوب، قال: لبيك، قال: أنا هذا قد دنوت منك، فقم فاشدد إزارك، وقم مقام جبار، فإنه لا ينبغي لي أن يخاصمني إلا جبار مثلي، ولا ينبغي أن يخاصمني إلا من يجعل الزنار في فم الأسد، والسِّخال في فم العنقاء، واللحم في فم التنين، ويكيل مكيالا من النور، ويزن مثقالا من الريح، ويُصر صُرَّة من الشمس، ويردّ أمس لغد، لقد منَّتك نفسك أمرا ما يبلغ بمثل قوّتك، ولو كنت إذ منتك نفسك ذلك ودعتك إليه تذكرت أيّ مرام رام بك، أردت أن تخاصمني بغيَّك؟ أم أردت أن تحاجيني بخطئك، أم أردت أن تكاثرني بضعفك، أين كنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها، هل علمت بأيّ مقدار قدرتها؟ أم كنت معي تمرّ بأطرافها؟ أم تعلم ما بُعد زواياها؟ أم على أيّ شيء وضعت أكنافها؟ أبطاعتك حمل ماء الأرض؟ أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء، أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا بعلائق ثبتت من فوقها، ولا يحملها دعائم من تحتها، هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها، أو تسير نجومها، أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها، أين كنت مني يوم سجرت البحار وأنبعت الأنهار؟ أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها؟ أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب، ونصبت شوامخ الجبال، هل لك من ذراع تطيق حملها، أم هل تدري كم مثقال فيها، أم أين الماء الذي أنزل من السماء؟ هل تدري أمّ تلده أو أب يولده؟ أحكمتك أحصت القطر وقسمت الأرزاق، أم قدرتك تثير السحاب، وتغشيه الماء؟ هل تدري ما أصوات الرعود؟ أم من أي شيء لهب البروق؟ هل رأيت عمق البحور؟ أم هل تدري ما بُعد الهواء، أم هل خزنت أرواح الأموات؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج، أو أين خزائن البرد، أم أين جبال البرد؟ أم هل تدري أين خزانة الليل بالنهار، وأين خزانة النهار بالليل؟ وأين طريق النور؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار؟ وأين خزانة الريح، كيف تحبسه الأغلاق؟ ومن جعل العقول في أجواف الرجال؟ ومن شق الأسماع والأبصار، ومن ذلَّت الملائكة لملكه، وقهر الجبارين بجبروته، وقسم أرزاق الدوابّ بحكمته، ومن قسم للأسد أرزاقها وعرف الطير معايشها، وعطَّفها على أفراخها، من أعتق الوحش من الخدمة، وجعل مساكنها البرية لا تستأنس بالأصوات، ولا تهاب المسلطين، أمن حكمتك تفرّعت أفراخ الطير، وأولاد الدّوابّ لأمهاتها؟ أم من حكمتك عطفت أمهاتها عليها، حتى أخرجت لها الطعام من بطونها، وآثرتها بالعيش على نفوسها؟ أم من حكمتك يبصر العُقاب، فأصبح في أماكن القتلى أين أنت مني يوم خلقت بهموت (١) مكانه في منقطع التراب، والوتينان (٢) يحملان الجبال والقرى والعمران، آذانهما كأنها شجر الصنوبر الطوال رؤوسهما، كأنها آكام الحبال، وعروق أفخاذهما كأنها أوتاد الحديد، وكأن جلودهما فِلَق الصخور، وعظامهما كأنها عَمَد النحاس، هما رأسا خلقي الذين خلقت للقتال، أأنت ملأت جلودهما لحما؟ أم أنت ملأت رؤوسهما دماغا؟ أم هل لك في خلقهما من شِرك؟ أم لك بالقوة التي عملتهما يدان؟ أو هل يبلغ من قوّتك أن تخطم على أنوفهما أو تضع يدك على رؤوسهما، أو تقعد لهما على طريق فتحبسهما، أو تصدّهما عن قوتهما؟ أين أنت يوم خلقت التّنين ورزقه في البحر، ومسكنه في السحاب، عيناه تَوَقَّدان نارا، ومنخراه يثوران دخانا، أذناه مثل قوس السحاب، يثور منهما لهب كأنه إعصار العجاج، جوفه يحترق ونَفَسه يلتهب، وزبده كأمثال الصخور، وكأن صريف أسنانه صوت الصواعق، وكأن نظر عينيه لهب البرق، أسراره لا تدخله الهموم، تمرّ به الجيوش وهو متكئ، لا يفزعه شيء ليس فيه مفصل [زُبَر] الحديد عنده مثل التين، والنحاس عنده مثل الخيوط، لا يفزع من النُّشاب، ولا يحسّ وقع الصخور على جسده، ويضحك من النيازك، ويسير في الهواء كأنه عصفور، ويهلك كلّ شيء يمرُّ به ملك الوحوش، وإياه آثرت بالقوّة على خلقي، هل أنت آخذه بأحبولتك فرابطه بلسانه، أو واضع اللجام في شدقه، أتظنه يوفي بعهدك، أو يسبح من خوفك؟ هل تحصي عمره، أم هل تدري أجله، أو تفوّت رزقه؟ أم هل تدري ماذا خرب من الأرض؟ أم ماذا يخرّب فيما بقي من عمره؟ أتطيق غضبه حين يغضب أم تأمره فيطيعك؟ تبارك الله وتعالى؟
قال أيوب صلى الله عليه وسلم: قَصُرْت عن هذا الأمر الذي تعرض لي، ليت الأرض انشقت بي، فذهبت في بلائي ولم أتكلم بشيء يسخط ربي، اجتمع عليّ البلاء، إلهي حملتني لك مثل العدوّ، وقد كنت تكرمني وتعرف نصحي، وقد علمت أن الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك، وأعظم من هذا ما شئت عملت، لا يعجزك شيء ولا يخفى عليك خافية، ولا تغيب عنك غائبة، مَنْ هذا الذي يظن أن يُسِرّ عنك سرّا، وأنت تعلم ما يخطر على القلوب؟ وقد علمت منك في بلائي هذا ما لم أكن أعلم، وخفت حين بلوت أمرك أكثر مما كنت أخاف، إنما كنت أسمع بسطوتك سمعا، فأمَّا الآن فهو بصر العين، إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني، وسكتّ حين سكتّ لترحمني، كلمة زلت فلن أعود، قد وضعت يديّ على فمي، وعضضت على لساني، وألصقت بالتراب خدّي، ودست وجهي لصغاري، وسكت كما أسكتتني خطيئتي، فاغفر لي ما قلت فلن أعود لشيء تكرهه مني.
قال الله تبارك وتعالى: يا أيوب نفذ فيك علمي، وبحلمي صرفت عنك غضبي، إذ خطئت فقد غفرت لك، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم، فاغتسل بهذا الماء، فإن فيه شفاءك، وقرِّب عن صحابتك قُربانا، واستغفر لهم، فإنهم قد عصوني فيك.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليمانيّ، وغيره من أهل الكتب الأوَل، أنه كان من حديث أيوب أنه كان رجلا من الروم، وكان الله قد اصطفاه ونبأه، وابتلاه
(٢) في الكتاب المقدس ص ٣٨١: " لوياثان ".