وبعد، فإن"ما" التي في قوله: (وما أنزل على الملكين)، إن كانت في معنى الجحد عطفا على قوله: (وما كفر سليمان)، فإن الله جل ثناؤه نفى بقوله: (وما كفر سليمان)، عن سليمان أن يكون السحر من عمله أو من علمه أو تعليمه. فإن كان الذي نفى عن الملكين من ذلك نظير الذي نفى عن سليمان منه - وهاروت وماروت هما الملكان - فمن المتعلَّم منه إذًا ما يفرق به بين المرء وزوجه؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) ؟ إن خطأ هذا القول لواضح بين.
وإن كان قوله"هاروت وماروت" ترجمة عن"الناس" الذين في قوله: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر)، فقد وجب أن تكون الشياطين هي التي تعلم هاروت وماروت السحر، وتكون السحرة إنما تعلمت السحر من هاروت وماروت عن تعليم الشياطين إياهما. فإن يكن ذلك كذلك، فلن يخلو"هاروت وماروت" - عند قائل هذه المقالة - من أحد أمرين:
إما أن يكونا ملكين، فإن كانا عنده ملكين، فقد أوجب لهما من الكفر بالله والمعصية له بنسبته إياهما إلى أنهما يتعلمان من الشياطين السحر ويعلمانه الناس، وإصرارهما على ذلك ومقامهما عليه - أعظم مما ذكر عنهما أنهما أتياه من المعصية التي استحقا عليها العقاب. وفي خبر الله عز وجل عنهما - أنهما لا يعلمان أحدا ما يتعلم منهما حتى يقولا (إنما نحن فتنة فلا تكفر) - ما يغني عن الإكثار في الدلالة على خطأ هذا القول.
أو أن يكونا رجلين من بني آدم. فإن يكن ذلك كذلك، فقد كان يجب أن يكونا بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل - من بني آدم. (١) لأنه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلم، فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما، عدم السبيل إلى الوصول إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما.

(١) يقول في سياقه: قد ارتفع من بني آدم - السحر، والعلم به والعمل.


الصفحة التالية
Icon