حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله عزّ وجلّ (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) قال: تلك الليلة ليلة القدر، أنزل الله هذا القرآن من أمّ الكتاب في ليلة القدر، ثم أنزله على الأنبياء (١) في الليالي والأيام، وفي غير ليلة القدر.
وقال آخرون: بل هي ليلة النصف من شعبان.
والصواب من القول في ذلك قول من قال: عنى بها ليلة القدر، لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أن ذلك كذلك لقوله تعالى (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) خلَقْنا بهذا الكتاب الذي أنزلناه في الليلة المباركة عقوبتنا أن تحلّ بمن كفر منهم، فلم ينب إلى توحيدنا، وإفراد الألوهة لنا.
وقوله (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) اختلف أهل التأويل في هذه الليلة التي يُفرق فيها كلّ أمر حكيم، نحو اختلافهم في الليلة المباركة، وذلك أن الهاء التي في قوله (فِيهَا) عائدة على الليلة المباركة، فقال بعضهم: هي ليلة القدر، يقضي فيها أمر السنة كلها من يموت، ومن يولد، ومن يعزّ، ومن يذل، وسائر أمور السنة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا ربيعة بن كلثوم، قال: كنت عند الحسن، فقال له رجل: يا أبا سعيد، ليلة القدر في كلّ رمضان؟ قال: إي والله، إنها لفي كلّ رمضان، وإنها الليلة التي يُفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كلّ أجل وأمل ورزق إلى مثلها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ربيعة بن كلثوم، قال: قال رجل للحسن وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر، أفي كل رمضان هي؟ قال:

(١) في فتح القدير للشوكاني (٤: ٥٥٤) :" وقال قتادة: أنزل القرآن كله في ليلة القدر من أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم أنزله الله على نبيه ﷺ في الليالي والأيام، في ثلاث وعشرين سنة".

عن جنسه، كما قيل: (إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، والقولان كلاهما غير بعيدين من الصواب لاحتمال ظاهر الكلام إياهما.
وقوله: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) يقول تعالى ذكره: علَّم الإنسان البيان.
ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالبيان في هذا الموضع، فقال بعضهم: عنى به بيان الحلال والحرام.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) : علمه الله بيان الدنيا والآخرة بين حلاله وحرامه، ليحتجّ بذلك على خلقه.
حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سعيد، عن قتادة (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) الدنيا والآخرة ليحتجّ بذلك عليه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة، في قوله: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) قال: تَبَيَّنَ له الخيرُ والشرّ، وما يأتي، وما يدع.
وقال آخرون: عنى به الكلام: أي أن الله عزّ وجلّ علم الإنسان البيان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) قال: البيان: الكلام.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: معنى ذلك: أن الله علَّم الإنسان ما به الحاجة إليه من أمر دينه ودنياه من الحلال والحرام، والمعايش والمنطق، وغير ذلك مما به الحاجة إليه، لأن الله جلّ ثناؤه لم يخصص بخبره ذلك، أنه علَّمه من البيان بعضا دون بعض، بل عمّ فقال: علَّمه البيان، فهو كما عمّ جلّ ثناؤه.


الصفحة التالية
Icon