بني إسرائيل: (١)."يا أرميا، من قبل أنْ أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصوِّرك في رَحِم أمك قدَّستك، (٢). ومن قبل أن أخرجك من بطنها طهَّرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبَّيتُك، (٣). ومن قبل أن تبلغ الأشُدَّ اخترتك، (٤). ولأمر عظيم اجتبيتك، فبعث الله تعالى ذكره إرميا إلى ملك بني إسرائيل يسدده ويرشده، ويأتيه بالبر من الله فيما بينه وبينه; قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلّوا المحارم، ونسوا ما كان الله صنع بهم، وما نجاهم من عدوهم سَنْحاريب، فأوحى الله إلى أورميا: (٥). أن ائت قومك من بني إسرائيل، فاقصص عليهم ما آمرك به، وذكِّرهم نعمتي عليهم وعرِّفهم أحداثهم = ثم ذكر ما أرسل الله به أرميا إلى قومه من بني سرائيل = (٦). قال: ثم أوحى الله إلى أرميا: إنّي مهلك بني إسرائيل بيافث -ويافثُ أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوح- فلما سمع أرميا وحيَ ربّه، صاح وبكى وشقّ ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه، فقال: ملعون يومٌ ولدت فيه، ويومٌ لُقِّيت فيه التوراة، (٧). ومن شر أيامي يومٌ ولدت فيه، فما أُبْقِيتُ آخرَ الأنبياء إلا لما هو شر علي! (٨). لو أراد بي خيرًا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل! فمن أجلي تصيبهم الشِّقوة والهلاك! فلما سمع الله تضرُّع الخضر وبكاءه وكيف يقول، (٩). ناداه: أورميا! أشقّ عليك ما أوحيت إليك؟ قال: نعم يا رب، أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أُسَرّ به، (١٠). فقال الله: وعزتي العزيزة، (١١). لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قِبَلك في ذلك! ففرح عند ذلك أورميا لما قال له ربه، وطابت نفسه، وقال: لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق، لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدًا! (١٢). ثم أتى ملكَ بني إسرائيل، وأخبره بما أوحى الله إليه، ففرح واستبشر وقال: إن يعذِّبنا ربُّنا فبذنوب كثيرة قدَّمناها لأنفسنا، وإن عفا عنا فبقدرته.
= ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية، وتمادوا في الشر، (١٣). وذلك حين اقترب هلاكهم، فقلّ الوحيُ، حتى لم يكونوا يتذكرون الآخرة، (١٤). وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنُها، فقال ملكهم: يا بني إسرائيل انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسَّكم بأسٌ من الله، وقبل أن يُبعث عليكم ملوكٌ لا رحمة لهم بكم، (١٥). فإن ربكم قريب التوبة، مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن
(٢) في تاريخ الطبري: "في بطن أمك"، سواء.
(٣) في المطبوعة: "نبأتك"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. ولأجود ترك الهمزة فيه، وحمله على لفظ"النبي" ونباه: جعله نبيا أو كتبه عنده نبيا. و"تنبى الكذاب"، إذا ادعى النبوة.
(٤) في التاريخ: "اختبرتك"، وما في التفسير، هو الجيد الصواب. وسيأتي اختلاف في بعض اللفظ لا أقيده حتى أجده صالحا للتعيين.
(٥) أثبت ما في المخطوطة في هذا الموضع وانظر التعليق السالف رقم: ١.
(٦) ما بين الخطين من كلام أبي جعفر، فقد قطع سياق الخبر، وانتقل إلي ما أراد، والذي يأتي يبدأ في تاريخه في ج ١: ٢٨٧.
(٧) في المطبوعة والمخطوطة: "لقيت التوراة"، وزدت"فيه" من التاريخ، وهي أجود. وفي التاريخ: "لقنت" من التلقين، والذي في المطبوعة والمخطوطة صواب جدا. لقي الشيء يلقاه (بتشديد القاف والبناء للمجهول) : علمه، ونبه إليه، ولقنه. فهما سواء في المعنى. وبذلك جاء في كتاب الله:
(وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم).
(٨) في المخطوطة: "إلا لما هو أشر على"، ولا بأس بها.
(٩) "الخضر" هو"أرميا" نفسه، فيما زعم وهب بن منبه راوي هذا الأثر، كما سلف ذلك عنه في رقم: ٥٨٩١.
(١٠) في المخطوطة والمطبوعة: "أهلكنى في بني إسرائيل" سقط منها"قبل أن أروي"، وأثبت صوابها من التاريخ.
(١١) في التاريخ: "وعزتي وجلالي" والذي في المخطوطة والمطبوعة قسم عزيز قلما أصبته فيما قرأت.
(١٢) " لا آمر ربي" يعنى: لا أسأله ذلك ولا أدعوه. وهو مجاز من الأمر" جيد عربي فصيح، وقلما تصيبه في كتب اللغة، وقلما تصيب الشاهد عليه. وذلك أنه إذا دعا قال: "رب أهلكهم"، فذلك دعاء، وكل دعاء يقتضى هذا الفعل الأمر، وليس بأمر لله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وهذا المجاز في النفى، أجود منه في الإثبات. وانظر ما سيأتي في الخبر ص: ٤٥٠، وتعليق: ك ٤.
(١٣) في التاريخ: "وتماديا في الشر" وهو أجود.
(١٤) في المطبوعة: "حتى لم يكونوا"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ، وهو العربي الصحيح.
(١٥) في التاريخ: "وقيل أن يبعث الله عليكم قوما لا رحمة لهم بكم".